
قادته دراساته وأبحاثه الأكاديمية وممارسته العملية في مؤسسته إلى تولّد قناعات عديدة لديه بشأن الفن ودوره، وأهمية التربية الفنية على ضوء واقع الحال في البلدان العربية اليوم، استطلعتها "القافلة" منه في هذا الحديث الخاص.

متحف الشارقة للفنون، الشارقة، الإمارات العربية المتحدة. 20 سبتمبر 2023م. تصوير: كريستينا ديميتروفا.
يرى الشيخ سلطان سعود القاسمي أن الشرارة الأولى للاهتمام بالفن قد تأتي من تجربة بسيطة، ولكنها فارقة. فيروي كيف أن زيارة عابرة لمعرض فني مشترك للفنان الفلسطيني الراحل إسماعيل شموط وزوجته الفنانة تمام الأكحل في غرفة تجارة وصناعة دبي عام 2002م، شكَّلت نقطة تحول مفصلية في حياته. يقول القاسمي: "كنت أمشي أنا ووالدي، رحمه الله، ووالدتي على خور دبي، ورأينا إعلانًا للمعرض فدخلنا. والدي، الذي لم يدرس الفنون، بدأ يشرح لي اللوحات المعروضة وأعمال الفنانين. هذه الزيارة، التي لم تستغرق وقتًا طويلًا، هي التي أنتجت هذا الإنسان الذي أصبح شغوفًا بالفن العربي. ولو أنني قلت، آنذاك، لا داعي للدخول، فلربَّما كنت اليوم أهتم بأشياء أخرى".
تؤكِّد هذه التجربة الأثر العميق الذي يمكن أن تتركه الفرص الصغيرة للتعرض للفن في تشكيل وعي الشباب. ولكنها تقودنا إلى الدور الذي تؤديه الذائقة والميول الفردية خاصة عند صغار السن.

كاظم حيدر، عشرة خيول متعبة تتحاور مع العدم (ملحمة الشهيد)، ١٩٦٥ ألوان زيتية على قماش، ٩١ × ١٢٧ سم. بإذن من مؤسسة بارجيل للفنون، الشارقة
كالنقش على الحجر
يُصحِّح الشيخ القاسمي ما هو متداول حول غياب الاهتمام بالفنون والذائقة الفنية عند الأطفال في العالم العربي. فهو يرى أن الفن يتجلَّى في أشكال عديدة تتجاوز المفهوم التقليدي، ويقول: "يحفظ الأطفال الأشعار والأناشيد الوطنية، ويعرفون أعلام بلدانهم، والرسوم المتحركة والمجلات مثل مجلة (ماجد) التي شكَّلت جزءًا من وعيهم الفني". ويشدِّد على "الدور المحوري للفن في تنمية حب الوطن لدى الناشئة؛ إذ عندما يشاهد الطفل لوحة لقائد وطني مهم أو شاعر، يبدأ في التعرُّف على هذه الشخصيات وتاريخها". ومع ذلك، فإنه يُقرَّ بأن الطريق لا تزال طويلة فيما يتعلق بتنمية ذائقة الفنون التشكيلية، مثل: الرسم والنحت والتصوير الفوتوغرافي.
ويرى أن وجود المنحوتات الفنية في الأماكن العامة، مثل تلك التي تنتشر على شاطئ مدينة جدة، أو وسط المدينة في دبي، يُسهم تدريجيًا في اعتياد الأطفال لهذه الصور الفنية وتذوّقها. ويستشهد أيضًا بفيلم "بركة يقابل بركة" للمخرج السعودي محمود صباغ بوصفه مثالًا إيجابيًّا على إبراز الفن المحلي. فالفيلم عرض أعمالًا فنية سعودية داخل بيوت الشخصيات، كما أن المشهد الأول جمع البطلين في معرض فني يعرض أعمالًا سعودية. يَعدُّ القاسمي هذه لفتة جميلة تسهم في ترسيخ الفن المحلي بدلًا من استعارة صور مدن غربية لتزيين الديكورات، داعيًا إلى تضافر الجهود من مختلف الجهات وجعلها مثل الأوركسترا لإبراز الأعمال الفنية العربية عبر مختلف الوسائط.
ولكن ماذا عن دور المؤسسات التعليمية؟

إنجي أفلاطون، أحلام المعتقلة، ١٩٦١. ألوان زيتية على قماش، ٥٠ × ٤٠ سم. بإذن من مؤسسة بارجيل للفنون، الشارقة.
يرى الشيخ القاسمي أن تدريس التربية الفنية في المدارس لا يزال ضعيفًا في تنمية الذائقة البصرية. ويقترح حلولًا عملية تبدأ بضرورة تنظيم زيارات مدرسية للمتاحف الفنية المنتشرة في العالم العربي، مثل مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي "إثراء" في الظهران، والمتاحف الوطنية والمتخصصة في الإمارات وقطر والكويت ومصر، وغيرها. ويُضيف أن على المؤسسات الثقافية، ومنها مؤسسته الفنية بارجيل للفنون، أن تطور مواقعها الإلكترونية لتكون سلسة وتفاعلية وغنية بالمعلومات المحدثة؛ لتشجيع الجمهور على قضاء وقت أطول في استكشاف الفن العربي. "ولكن المسؤولية لا تقع على عاتق المؤسسات وحدَها، بل هي مسؤولية مجتمعية مشتركة، ومسؤولية جيل أيضًا. ويتساءل: "هل نحن مقصرون أم أن الجيل الحالي مقصر؟ إن لوم الأجيال السابقة ليس حلًا، بل يجب على الجيل الحالي بدوره أن يبادر إلى إصلاح المفاهيم والتعرُّف على فنونه والتعريف بها. لأن الفن مفتاح لفهم العالم والحياة اليومية، وأسلوب للحوار مع الآخر عبر رموز مشتركة. وهناك حاجة ماسة لتنمية هذه اللغات المشتركة بين الأطفال لتعزيز حب الوطن وترسيخ الهوية العربية فيهم، التي تُواجه اليوم ضغوطًا هائلة من شبكات التواصل الاجتماعي، والتلفزيون، وهوليوود، والألعاب الإلكترونية، وما شابه ذلك. والفنانون العرب لا يقلون شأنًا عن غيرهم عالميًا، بل قد يتفوق بعضهم على أقرانهم الغربيين، لكنهم لم ينالوا حقهم الكافي من الترويج والانتشار".
ويضيف: "يد واحدة لا تصفق. يجب على الناس أن يزوروا المتاحف والمعارض، ويجب على الأسر اصطحاب أطفالهم إلى هذه الصروح الثقافية. وعلى الشباب أن يخصصوا أوقاتًا لزيارة المعارض بدلًا من الاكتفاء بالوجهات الترفيهية الأخرى. فالتجربة الفنية يجب أن تكون غنية وسهلة ومتاحة، ولكن على المتلقي أيضًا أن يبادر".

فخر النساء زيد، المدينة الحمراء، ١٩٥٧. ألوان زيتية على قماش، ١٦٢ × ١٣٢ سم. بإذن من مؤسسة بارجيل للفنون، الشارقة.
صحح الصور النمطية
استوقَفَنا الحديث عن الفن بوصفه لغة مشتركة بين الواحد والآخر، فأي آخر يقصد؟
يتحدَّث القاسمي عن "الدبلوماسية الثقافية" ودورها من خلال أمثلة محددة. فيقول إنه عند عرض الأعمال العربية في متاحف عالمية كبرى مثل المتروبوليتان والموما والتيت، جنبًا إلى جنب مع أعمال كبار فناني العالم، فهذا يُوازن بين الإنتاج الثقافي العربي والعالمي، ويُغيِّر الصورة النمطية عن الإنسان العربي. ويروي، على سبيل المثال، قصة باحثة سعودية حضرت معرض (Taking Shape) عن الفن التجريدي العربي في متحف جامعة نيويورك، وسمعت نساء أمريكيات يتعجَّبن من أن النساء العربيات يُسمح لهن بممارسة هذه الفنون.
ولكنه يُشدِّد على أن هذا الدور لا يقتصر على تعريف الغرب بنا وبفنوننا، بل يمتد إلى ضرورة تعريف العرب بأنفسهم وببعضهم بعضا. فيقول، على سبيل المثال، إن كثيرًا من المصريين قد لا يعرفون الفن خارج مصر، وكذلك الحال في دول عربية أخرى. ويرى أن أهل الخليج ربَّما هم الأكثر إدراكًا للتنوع الفني العربي بسبب الوجود الكبير للجاليات العربية المختلفة في أرضهم.
ويُضيف أن شبكات التواصل الاجتماعي تؤدي دورًا في هذا التقارب. وهو يحرص شخصيًا على مشاركة أعمال فنانين عرب من مختلف الجنسيات مع متابعيه المتنوعين، وهو ما يساعد في تعريف الجمهور المصري بفنان سوري مثلًا، أو تعريف العراقيين بفنان سعودي، داعيًا المؤثرين والمشاهير على وسائل التواصل الاجتماعي إلى الالتفات أكثر إلى الفن العربي للإسهام في نشره وتعريف الجماهير به.

مروان، الأولاد الفلسطينيون الثلاثة، ١٩٧٠. ألوان زيتية على قماش، ١٣٠ × ١٦٢ سم بإذن من مؤسسة بارجيل للفنون، الشارقة
ننتقل بالحديث مع القاسمي إلى "الاقتصاد الإبداعي" الذي كثر الحديث عنه، مؤخرًا، ويشهد اهتمامًا متزايدًا في المنطقة، فيقول إن إسهام الاقتصاد الإبداعي في الناتج القومي المحلي في العالم العربي لا يزال محدودًا مقارنة بدول مثل بريطانيا التي تحقق مليارات من هذا القطاع.
ويوضح أن الاستثمار في الثقافة والفنون لا يقتصر على العائد المباشر، بل يمتد ليشمل إطالة مدة إقامة السيَّاح، الذين بدورهم ينفقون أكثر في المطاعم والمتاجر والمنافذ الاستهلاكية. ويضرب مثلًا بالعاصمة القطرية الدوحة التي تحوَّلت من وجهة زيارة ليوم واحد إلى وجهة تتطلب أيامًا عديدة بفضل افتتاح كثير من المتاحف المتنوعة مثل: متحف الفن الإسلامي، والمتحف العربي للفن الحديث، والمتحف الوطني، والمكتبة الوطنية، وغيرها. ويؤكد أن تعدُّد الخيارات الثقافية والفنية أصبح ضرورة لجذب الجمهور في عصر تعدُّد وسائل الترفيه.
وبشأن الاستثمار في الفن، الذي يعني في جانب منه الاتجار بالأعمال الفنية، ومن ثَمَّ انتقال العمل الفني إلى جهة خارج بيئة نشأتها، مع ما ينطوي عليه ذلك من خسارة للبيئة المحلية، يقول القاسمي إن الأمر يحمل بُعدين: فمن جهة، هناك أمنية بأن تبقى الأعمال المهمة في المنطقة التي أنجبتها. ومن جهة أخرى، فإن اقتناء هذه الأعمال من قِبل متاحف عالمية يبعث على الفخر، وله مردوده الخاص. فعندما يزور مشاهد غربي متحفًا ويرى لوحة لفنان سعودي أو مصري أو فلسطيني، فإن ذلك يدفعه للاستفسار والبحث، وربَّما الاقتناء، وهذا ما يُسهم في نشر الثقافة العربية“.
وفي ختام حديثه، يؤكِّد الشيخ سلطان سعود القاسمي أهمية التوازن بين الحفاظ على الهوية والانفتاح على الآخر، وهو قلَقٌ مشروع لدى الكثيرين في العالم العربي. ويستذكر مقولة عميقة سمعها: "إن أفضل طريقة للحفاظ على ثقافتك هي أن تشاركها مع الآخر". ويشرح قائلًا: "عندما تشارك ثقافتك، فإن الآخر يستخدمها، يتفهمها، يستوعبها، وفي النهاية يحترمها. لذا، لا ينبغي أن نخاف من الانفتاح، بل يجب أن نعزِّز وعينا وإدراكنا بثقافتنا وقوتها، وأن نتمسك بها ونشاركها بثقة مع العالم. ففي هذه المشاركة الواعية يكمن سر الحفاظ على هويتنا وتطورها، وضمان استمراريتها في عالم متغير."


لوحتان: الأول لـ مليكة أكزناي، الطحلب الأزرق، ١٩٦٨. تكوين بارز وأكريليك على خشب، ١٠٠ × ٦٥ سم.
بإذن من مؤسسة بارجيل للفنون، الشارقة. والثانية لـ محمد خدة، تجريد أخضر، ١٩٦٩. ألوان زيتية على قماش، ٥٤ × ٤٥ سم بإذن من مؤسسة بارجيل للفنون، الشارقة
الشيخ سلطان بن سعود القاسمي - سيرة مختصرة
كاتب إماراتي وباحث في الشؤون السياسية والاجتماعية والثقافية لدول الخليج العربي، ومؤسس "مؤسسة بارجيل للفنون" في الشارقة، التي تُعنى بحفظ الفنون الحديثة والمعاصرة وعرضها في العالم العربي.
تنقّل القاسمي بين أبرز الجامعات والمؤسسات الأكاديمية العالمية؛ إذ شغل منصب زميل مدير في مختبر الوسائط في "معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا" بين عامي 2014م و2016م. كما عمل ممارسًا مقيمًا في مركز هاكوب كيفوركيان لدراسات الشرق الأدنى في جامعة نيويورك خلال ربيع 2017م، وزميلًا في برنامج غرينبرغ بجامعة ييل عام 2018م. وحاضر في عدد من الجامعات المرموقة، منها جامعة جورج تاون، والجامعة الأمريكية في باريس، وكلية بوسطن، ومعهد العلوم السياسية في باريس.
في عام 2021م، اختِير باحثًا زائرًا في مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، وضمن "مبادرة الشرق الأوسط" في كلية كينيدي بجامعة هارفارد. كما درَّس في كلية الآداب والعلوم بجامعة برانديز. وفي عام 2023م، انضم بوصفه زميلًا إلى كلية العلوم في برلين.
شارك القاسمي الباحث تود رايس في تحرير كتاب "بناء الشارقة"، الصادر عن دار بيركهاوزر، عام 2021م.
ويتناول هذا الكتاب تاريخ التمدُّن في الإمارة من خلال عماراتها، متطرقًا إلى الجوانب السياسية والاجتماعية والحضرية التي شكَّلت المدينة عبر حقب مختلفة.
وشارك روبرتو فابري في تحرير عنوان "الحداثة الحضرية في الخليج المعاصر" (Urban Modernity in the Contemporary Gulf)، الذي ضمَّ نصوصًا عن معظم المدن الخليجية
مؤسسة بارجيل للفنون
مبادرة مستقلة تتخذ من دولة الإمارات العربية المتحدة مقرًا لها. تأسَّست بهدف إدارة وحفظ وعرض مجموعة واسعة من الفنون العربية الحديثة والمعاصرة. وتستند في رؤيتها إلى الإسهام في إثراء المشهد الثقافي والفني في العالم العربي عبر بناء مجموعة فنية بارزة ومتاحة للجمهور في الإمارات.
تشمل أهداف المؤسسة تطوير منصة عامة تعزِّز الحوار النقدي حول الممارسات الفنية المعاصرة، وتُركِّز على الفنانين ذوي الأصول العربية في مختلف أنحاء العالم.
وتهدف المؤسسة إلى أن تكون مصدرًا معرفيًا للفن المعاصر العربي محليًا وعالميًا، وذلك عبر تنظيم المعارض الداخلية، وإعارة الأعمال الفنية للمنتديات الدولية، وإنتاج منشورات مطبوعة ورقمية، وتصميم برامج تفاعلية موجهة للجمهور. كذلك تعمل على بناء قاعدة بيانات شاملة للفنانين، وتسعى إلى تطوير برنامج تعليمي يتفاعل مع المجتمع المحلي ويفهم احتياجاته، وتُبرم شراكات مع مؤسسات فنية وثقافية دولية بهدف خلق فرص جديدة تُعزِّز الوعي المجتمعي بأهمية الفن في الحياة العامة.
في عام 2018م، وقّعت المؤسسة عقدًا مع هيئة متاحف الشارقة لافتتاح معرض طويل الأمد في متحف الشارقة للفنون، يضم مجموعة مختارة من أبرز لوحات وأعمال النحت والفنون متعددة الوسائط من مقتنيات مؤسسة بارجيل للفنون.