Hero image

طارق عبدالحكيم.. لحنُهُ علَّم الغَزَلْ

د. أحمد الواصل

أكتوبر 19, 2025

شارك

أدَّت الصُدف دورًا كبيرًا في إدخال طارق عبدالحكيم (1918م – 2012م) إلى تاريخ الغناء والموسيقى عبر إقليم الحجاز. فهو ابن أحد أقطاب تكوين المدرسة الحجازية في مدينة الطائف المشرفة من جبل غَزْوان على قرًى عدَّة، مثل "السلامة" و"الوَهْط" و"المثناة"، وقد وُلد طارق عبدالحكيم فيها لعائلة تعتمد على الأرض؛ إذ كان والده مزارعًا، وكانت جلسات السمر المسائية، مع الرعاة أحيانًا، تمتلئ بخزينة الأهازيج والكسرات والمجارير، وغير ذلك من ألوان الغناء الشعبي، وهذا ما حداه أن يبدأ عفويًّا مسيرته الفنية منذ نعومة أظفاره، بالتدرَّب على الغناء عبر حمل الطار.

دخل طارق عبدالحكيم وهو في السابعة من عمره مدرسة الطائف السعودية عام 1925م. وفي أثناء دراسته توفي والده عن عمر يناهز خمسة وثمانين عامًا، فعاش هو وأخته وأخوه تحت رعاية خاله محمد صالح أبو ظهر. وبعد أن نال شهادته الابتدائية بتقدير امتياز، دخل مدرسة المسحاة والمنجل، ليعاون خاله في زراعة الأرض. وبدأت هوايته تتطوَّر بمحاولة العزف على العود حين حضر المغني المكي الشريف هاشم العبدلي في مناسبة اجتماعية. كما تطلَّع أيضًا إلى مغنٍّ آخر، وهو حسن جاوَهْ، الذي سحره عزفه بآلة العود.

وقد أتاحت له الصدفة التعرُّف إلى التاجر عبدالوهاب حلواني الذي طلبه لمساعدة المحاسب في دكانه لبيع الخضار والفواكه. ثم توافرت له فرصة الالتحاق بالخدمة العسكرية في دورة النوَّاب عام 1939م، بمساعدة ضابطٍ كان زبونًا من زبائن الدكان. وفي الطائف، التي كانت مركز الجيش السعودي آنذاك، تدرّب على سلاح المدفعية، وتحصل على مرتبة وكيل مدفعي، ونُقِل على إثر ذلك إلى مدينة الرياض ليواصل خدمته العسكرية فيها.
عُرِف عنه، آنذاك، أنه يهوى الغناء والعزف. وخلال بعض السهرات التي كان ينظِّمها، كان يغني ما توافر له حفظه من أغاني المدرسة الخليجية برموزها، مثل: محمد بن فارس، ومحمد زويد، ومن مدرسة الحجاز، خاصةً مغنّي مكة، مثل: محمد علي سندي، وسعيد أبو خشبة، وكذلك ما توافر لديه مما يُسجَّل بالقاهرة حينها، سواء لأم كلثوم ومحمد عبدالوهاب أو فريد الأطرش، إضافةً إلى اطّلاعه على بعض الغناء اليمني بصوت محمد الماس.

ما جعله مُحرَجًا من الظهور مغنيًّا وهو في وسط عسكري، سوف يُفيده مُلحِّنًا انتقل من الهواية طفلًا إلى رئاسة المجمع الموسيقي العربي.

رحلاته إلى مصر

نستطيع أن نرصد رحلات فنية توافرت لطارق عبدالحكيم وكشفت عن مواهبه في الغناء والتلحين، إضافةً إلى أنها مهَّدت الطريق لجيل من المغنين السعوديين بعده، مثل طلال مداح أو غازي علي أو محمود حلواني، ثم محمد عبده وسواهم. ونلحظ فيها أن الصدفة، التي ربَّما جعلته مُحرَجًا من الظهور مُغنيًّا وهو في وسطٍ عسكري، سوف تفيده مُلحِّنًا لأغانٍ بأصوات انتشرت عربيًّا عبر مركزين غنائيين مؤثرين؛ القاهرة وبيروت.
ففي عام 1952م، أُتِيحت له بعثة حكومية لمدة سنةٍ من وزير الدفاع، آنذاك، الأمير منصور بن عبدالعزيز، ليدرس الموسيقى في مصر من أجل تأسيس مدرسة موسيقات الجيش العربي السعودي. وعادت الفرصة إليه من جديد عبر التاجر عبدالله بن زقر، الذي عرض عليه إنتاج أسطوانات له. وقد جرى ذلك عندما التقى الشاعر محمد الفهد العيسى الذي كتب أربع أغنيات لحَّنها طارق، وتقاسم غناءها مع نجاح سلام، فسجَّل هو: "معبد الحب ولك عرش وسط القلب" (1954م)، وسجَّلت هي: "يا ريم وادي ثقيف"، و"يا ليتني ما هويتك" (1954م). 

أدَّى نجاح هذه الأسطوانات إلى التعاون مع نجاة الصغيرة في أواخر الخمسينيات، وبرعاية المنتج نفسه. وأثمر هذا التعاون أغنيات: "يا اللي في هواك هيمان" (1956م) من شعر محمد طلعت، ومع فائزة أحمد "أسمر عبر" (1954م) من شعر محمد الفهد العيسى. وقد كُلِّف، حينذاك، من إذاعة صوت العرب بتلحين أغنيات من التراث السعودي للحفظ في أرشيفها. فسجَّلت بصوت محمد قنديل "يا حمام الحرم"، وبصوت كارم محمود "يا لابس الإحرام"، كذلك بصوت أحلام "يا أغلى في الحياة عندي".

وبتعدد رحلاته إلى مصر، أُتِيحت له الفرصة للقاء أم كلثوم عبر عازف الكمان أحمد الحفناوي، ثم لقاء محمد عبدالوهاب. فغنَّى لهما، وأهدى كل واحد منهما بعض الأغنيات التي سجَّلها في الإذاعة عام 1959م.
استثماره في الوطن لخبراته المكتسبة
عزَّز طارق عبدالحكيم، بعد عودته إلى الوطن، مدرسة موسيقات الجيش العربي السعودي، وألَّف "مارش" عسكريًا (ألحان السير)، وعمل على تطوير توزيع السلام الملكي الذي وضع لحنه عام 1946م المُلحِّن المصري عبدالرحمن الخطيب. وسجَّل أسطوانات في شركة دنيا الفن، لمالكها محمد بن سهيل في مدينة الدمام.
وإضافةً إلى ما تقدَّم، كلّفه وزير الدولة لشؤون الإذاعة والصحافة والنشر عبدالله بلخير عام 1962م، بتأسيس فرقة الإذاعة السعودية. واستطاع أن يستثمر في الموسيقيين الشبان الذين درّسهم في فرقة الموسيقى العسكرية، مثل عازف الناي ثواب عبيد، وعبده مَزْيَد الذي صار مايسترو فيما بعد.

 

رحلاته إلى لبنان

 في أثناء قضاء إجازة صيفية في بيروت، عرض عليه صالح بن حمد وأحمد باعيسى إنتاج أسطوانات له بأصوات من لبنان. وما عزَّز المشروع منذ البداية، كان تسجيل عدد كبير من الأغنيات الناجحة بأصوات لبنانية مشهورة عربيًّا، مثل المغني اللبناني وديع الصافي، الذي غنَّى قصيدة: "لا وعينيك" (1964م) من شعر عنترة بن شداد. كما غنَّت سميرة توفيق من ألحانه أغنية أشهرتها الإذاعة السعودية: "أشقر وشعره ذهب" (1962م) من شعر إبراهيم خفاجي، ولصباح "البعد والحرمان" (1962م) من كلمات إبراهيم خفاجي. وغنّت له هيام يونس "تعلَّق قلبي" (1966م) من شعر امرئ القيس. ومن سوريا غنَّى له فهد بلّان "محبوب قلبي" من شعر صالح جلال.

في تلك الفترة، اتخذ وجوده في لبنان بُعدًا عربيًّا أكبر، بفعل ظهور صوت طلال مداح الذي كان يعتمد على ألحانه وتعاونه مع ملحنين عرب مثل زكي ناصيف. وأُتيحت الفرصة أيضًا للمغني الناشئ حينذاك محمد عبده، لتوافر الإمكانات الفنية من فِرَق موسيقية واستوديوهات في بيروت، فغنى من ألحان طارق أغنية "سكة التايهين" (1966م)، من شعر ناصر بن جريد. ثم أعاد المغنون السعوديون معظم أغانيه في العقود التالية حتى نهاية القرن العشرين.

 

تقاعد.. لم يتقاعد

في أواخر الستينيات الميلادية، تقاعد طارق عبدالحكيم عن خدمته العسكرية بعد أن رُقّيَ إلى رتبة زعيم "عميد" عام 1962م. انصرف بعد ذلك إلى تأسيس "فرقة الفنون الشعبية" التي قدَّمت أنواع الفنون الشعبية متنوعة الروافد، نظرًا للتلوّن الثقافي ما بين مناطق المملكة، وعرَّفت العالم بهذا التراث الموسيقي؛ إذ طافت آسيا (اليابان وكوريا)، وأوروبا (فرنسا، والدنمارك، وألمانيا، والنمسا، وبريطانيا)، إضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، كما غطّت أغلب الدول العربية من المشرق إلى المغرب.
حصل طارق عبدالحكيم على جائزة اليونسكو للموسيقى عام 1981م، وانتُخب رئيسًا للمجمع الموسيقي العربي عام 1983م. وأسَّس متحف الموسيقى العسكري في الرياض عام 1984م، ثم انتُخب رئيسًا للمجمع مرَّة أخرى من 1987م إلى 1996م. بعد ذلك، نقل مقتنياته الشخصية من آلات موسيقية ونوتات وآلات تسجيل، إضافة إلى شهاداته وصور فوتوغرافية كانت معروضة في متحف شخصي بالطائف أسماه "المتحف الوطني للفنون والتراث"، إلى مساحة أرض كبيرة ومبنى من دورين في حي النهضة بجدة تحت اسم "قلعة الفنون التراثية". وفي عام 2022م، جُمِعت متعلقات المتحفين تحت اسم "متحف طارق عبدالحكيم".