
وجدت الفنانة التشكيلية فاطمة النمر، منذ طفولتها، في الرسم فضاءً يتجاوز حدود الهواية، ليُمثّل "أداةً للبقاء". فانطلقت من الأسود والأبيض نحو الضوء والحرف، قبل أن تجعل من صورة المرأة محورًا رئيسًا في أعمالها. إذ كانت أول مواجهة لها مع اللوحة مطعَّمة بشعور وجداني ممزوج بفهمٍ أسمى: "شعرت أنيّ أتنفس من خلال اللوحة، وأنها تمنحني لغةً أخرى للتعبير عن الذات". هذا الوعي المبكر هو ما قاد تجربتها لاحقًا، وتعزَّز مع تراكمها، ليتجاوز اشتغالُها الفني الجوانبَ الجمالية، ليصبح معبّرًا عنها وعن رؤاها الفكرية والحياتية التي تُمزج في العمل الفني.
شُغِفت النمر بالفن منذ بداياتها الأولى مع الفرشاة. وتحوَّل هذا الشغف إلى مفهوم متأصل في بنيتها الإبداعية، تعمَّق عبر أسفارها واطّلاعها على ثقافات متعددة صاغت في داخلها ثروة أسلوبية تتجلى في مختلف اشتغالاتها. فمن خلال لوحاتها، تتقاطع المرجعيات الشعبية مع غنى الطقوس والممارسات، لتتداخل مع الذاكرة والجسد، مشكلِّة لغةً بصريةً رمزية هيَّأت لها تشييد حضور بارز انطلق من فضاءات الساحة الخليجية، وتشابك مع نسيجه العربي، متسِعًا نحو آفاق عالمية.

فاطمة النمر في المرسم
سؤال الهوية.. بحث لا ينتهي
في مواجهة البدايات، ينهض السؤال: ما اللحظة المؤسِّسة التي جعلت الفن يتحوَّل من شغف عابر إلى قدر مهني يخط مسار الحياة؟ وكيف تستعيد الفنانة تلك اللحظة اليوم وقد تراكمت التجارب وتكثَّف الوعي؟ إزاء هذه المُساءلة، تتوقف النمر لتكشف أن أول عملٍ عدَّتْه ناضجًا، كان مُشبَعًا بسؤال وجودي: "من أنا وسط هذا الإرث الكثيف من الذاكرة والتقاليد؟"، سؤالٌ ظل يلازمها، لكنه لم يتوقف عند حدِّه الأول، بل اتسع حتى صار فضاءً مفتوحًا "يُسائل الهوية، والمرأة، والإنسان، والمكان، وذاكرة الجسد عبر صياغات متعددة".
مساءلة الذات هذه، تغدو لدى النمر مفتاحًا لاستعادة التكوين الأول الذي شكَّل وعيها الفني، ووجَّه مسار تجربتها: "العائلة منحتني جذوري وهويتي، والمرأة كانت مرآتي الأولى؛ أمي وجدتي". وتعطي النمر أهمية خاصة للحكايات والقصص التي كانت تسمعها من محيطها؛ لأنها شكّلت رؤيتها للعالم. على هذا المسرح المبكر، يتجسَّد المكان عنصرًا مؤسِّسًا للذاكرة؛ إذ "غرس فيَّ ذاكرة بصرية غنية من الزخارف الشعبية والألوان البحرية لروائح مدن الشرقية التي تلتصق بالذاكرة". ولعلَّ الثقافة الشعبية، بما تختزنه من رموز وأساطير، منحتها مادة أولى لا تزال تستحضرها اليوم: "زوّدتني بالرموز والحكايات التي أستدعيها في أعمالي، لأروي من خلالها قصصنا وهويتنا للمتلقي العالمي بطريقة تعكس عمق تجربتنا وتاريخنا الغني".

المرأة محورٌ لفك طلاسم التاريخ والحكايات
تستدعي النمر تلك الرمزيات في اشتغالاتها، لتُشكِّل مسارًا فنيًّا يتداخل فيه البصري بالنقدي، ويتعانق فيه المحلي بالكوني. فحضور المرأة هو مساءلة جمالية لوجودها في سياقٍ اجتماعي وثقافي، تستعيدُ من خلاله الذاكرةُ رموزًا دلالية. فما تعتقده النمر، أن المرأة ليست عابرة في السردية الخليجية، إنما هي ذاكرة المكان وهويته: "أعمالي تُفصح أن المرأة ليست كائنًا عابرًا، بل هي هوية حية وقوة نتفاخر بها". فيما تستحضر كل عناصر التراث الأخرى، لتعيد مسرحة الوجود بصريًّا، من خلال "البحث عن الذاكرة المطمورة؛ الحكايات الشعبية، والطقوس، والتراث الذي ورثناه عبر الأجيال". فمن خلال هذا البحث "أعيد صياغة السردية بشكلٍ فنيٍّ معاصر، لأرسم في حضور المرأة قوةً، وهويةً حيَّة، وقصة، ولغةً فنية تصل العالم لتكشف عمق ثقافتنا وجمال إرثنا".
هذا الحضور المكثَّف للمرأة، يتجسَّد فيه النقد الاجتماعي في صورة تيار خفي يتسرَّب عبر جماليات العمل؛ إذ تُمزج العناصر مع أسئلة الهوية والمرأة، لتُولِّد نصًّا بصريًّا يجعل من الجماليات الشعبية أفقًا للتماس مع القضايا الاجتماعية: "النقد عندي لا يُقال مباشرة، إنما يتسرَّب من خلال الجمال. أستند إلى جماليات الخط والزخرفة والمواد المحلية، وأحمِّلها أسئلةً اجتماعية تتعلق بالمرأة والهوية". فمن خلال ذلك، تخلق النمر تكامل أعمالها لتضفي عليها عمقًا يوازن بين عدم جعلها "خطابًا نقديًّا مباشرًا"، أو "تزيينًا جماليًّا فارغًا".
لا تُصنِّف النمر فنَّها فنًّا نسويًّا بالمعنى الضيق، وإنما تراه مشروعًا إنسانيًّا: "المرأة في أعمالي ليست موضوعًا منفصلًا، إنما محور لفك طلاسم التاريخ والحكايات والطقوس التي تشكِّل وعينا الجماعي".

خامات مشبعة بالذاكرة
تستحضر النمر في اشتغالها الفني مفرداتٍ رئيسة من المواد الشعبية، من ليف النخل إلى السجاد، ومن التطريز والقماش إلى الحناء، لتعيد توظيفها في "سرديات حيَّة لنساء قضين أعمارهن في حوار مع الإبرة والخيط". لهذا، يجيء اختيارها لهذه المواد محمَّلًا بأبعاد دلالية أعمق من مجرد توظيف تقني: "اختياري لهذه المواد ليس مجرد تجربة تقنية، بل فعل لإحياء إرث الماضي ولإعادة ذاكرة الأجداد، لتصبح الأعمال الفنية مساحةً تتنفس فيها الحكايات والجذور، وتستمر لترويها الأجيال الجديدة".
وتدعم ذلك بالزخرفة التي تراها "وعاءً للمعنى"؛ إذ تحرص على أن يكون خلف كل عنصر زخرفي سؤال أو رمز أو قصة، لكيلا يكون "مجرد فولكلور استهلاكي". وهكذا تتحوَّل الزخرفة في اشتغال النمر إلى نصٍّ ثقافي يعيد مساءلة التراث، ويمنحه حضورًا جديدًا. أمَّا اللون، فهو كما تصفه "كائن مزدوج، يحمل أحيانًا دلالاتٍ ثقافية، وأحيانًا أخرى يمثّل إيقاعًا بصريًّا يوازن التكوين، ويخلق حركة وتأثيرًا عاطفيًّا على المتلقّي".

المسار المفتوح بين البحث والتجريب
تمضي النمر في اشتغالاتها وفق منهجية متدرجة تبدأ بالتدوينات، تليها مرحلة البحث النصي والبصري، ثم التجريب على المادة، ثم الرسومات الأولية "الاسكتشات"، وصولًا إلى التنفيذ. وفي هذا المسار، تشير إلى أن طاقتها الكبرى تُستنزف في مرحلة التجريب: "لأنها تكشف حدود المادة وتفتح أمامي إمكانات جديدة". وبعد العرض، تظل تتراءى لها احتمالات للتوسع أو إعادة التعديل، لتغدو اللوحة مشروعًا مفتوحًا لا يحدّهُ الإنجاز، وإنما التنامي عبر الزمن.
وتؤكد النمر أن البحث البصري غالبًا ما يتقدم على النصي؛ إذ قد يتحوَّل النص إلى عبء يحاول تقييد الصورة بدلًا من أن يفتح لها أفقًا.

الأيقونات والتناصُّ والمكان
تتعاطى النمر مع الأيقونات بقدرٍ عالٍ من الحذر، ولا سيَّما حين تمسُّ حساسية دينية أو اجتماعية؛ إذ ترى أن "الجرأة ليست في كسر المُحرَّم، بل في مساءلته فكريًّا وجماليًّا". فهي تستحضر التناص مع الفنون العربية والإسلامية التاريخية بوصفه أداة مزدوجة، نقدية وجمالية معًا، تعيد من خلالها مساءلة التراث انطلاقًا من سؤال: "ما الذي بقي حيًّا؟ وكيف يمكن أن يكون مادةً حاضرة في خطاب معاصر؟". عندئذٍ لا تبقى الأيقونة مجرد رمز ساكن، بل تتجسَّد "حالة وجود، وقوة تأثير، ورسالة إلهام"، لتُثبت بصمتها على الذاكرة البصرية والثقافية، جاعلةً من اشتغالها "جسرًا يصل الماضي بالحاضر، والفرد بالمجتمع، والتراث بالفن المعاصر".
ومن هذا الجسر الممتد، تستعيد النمر الفضاء المكاني لمسقط رأسها "القطيف" بما يفيض به من بحر، وأسواق، وبيوت طينية، وزخارف، وملابس نسائية، بوصفه المخزون البصري الأول لتجربتها. غير أنها لا ترتهن لسطوة المكان، وهو ما يحذو بها إلى إعادة صياغته بلغة معاصرة، متمردة على أثره، لتبعثه من جديد على هيئة أعمال فنية حيَّة ومعاصرة؛ إذ تؤكد: "كل قطعة أخلقها هي شهادة على أصالة المكان، وفخري بهويتي العميقة المتجذرة من الأجداد".
“
الاشتغال المؤسَّس على الأرشفة يُضفي على تجربتها ثراءً معرفيًّا، ويمنح أعمالها بُعدًا يتجاوز المحلي، يعرّف الثقافات الأخرى بإرث المرأة السعودية والعربية.

أرشيف نسائي بصري
في اشتغالات النمر يتجلى حضور المرأة محورًا مركزيًّا مُشبَعًا بأشكال الهوية وطبقات التراث؛ إذ يُصبح الجسد الأيقوني بؤرةً للحكايات والزخارف وفضاءً لإعادة إنتاج المعنى مع كل عمل فني جديد. وغالبًا ما تبدو المرأة في لوحاتها محجوبةَ العينين أو تغطي إحداهما قصدًا، في حين تنشغل اليد بحمل أدوات وعناصر تراثية، في إيماءة تضعها بين ثنائية الهشاشة والقوة، وبين الصمت المليء بالدلالات والكلام المؤجل في انتظار لحظة البوح.
يرى بعض النقَّاد، كما تنقل النمر، أن أعمالها تشكِّل "أرشيفًا نسائيًّا بصريًّا خليجيًّا يمزج بين الحنين والذاكرة". وهو توصيف لا تنكره، بل تؤكده: "كرَّست ما يقارب تسع سنوات في أرشفة صور وكتابات وشهادات لنساء حقيقيات، لتتحوَّل الذاكرة الفردية والجماعية لمادة فنية حيَّة». هذا الاشتغال المؤسَّس على الأرشفة يُضفي على تجربتها ثراءً معرفيًّا، ويمنح أعمالها بُعدًا يتجاوز المحلي؛ إذ تسعى إلى "إيصاله بوصفه لغةً عالمية تُعرِّف الثقافات الأخرى إلى قوة إرث المرأة السعودية والعربية، وتفتح حوارات تتخطى الحدود"، لتغدو هذه الذاكرة، بصريٍّا وفنيًّا، إرثًا متجددًا يتخلَّق في كل قراءة بلغةٍ عصرية.

سيرة موجزة للفنانة فاطمة النمر
وُلِدت فاطمة النمر في القطيف، في المنطقة الشرقية بالسعودية.
مثَّلت السعودية في معارض محلية ودولية في الخليج والعالم، منها اليابان والهند وهولندا. ونالت جوائز مرموقة، أبرزها الجائزة الأولى في معرض الفن السعودي المعاصر (2010م)، لتصبح أحد أبرز الأصوات التشكيلية في المشهد السعودي والعربي المعاصر.
تصوير: شيرين رفيع