
في المسافة بين الجدارية والبورتريه يتحرك الفنان المصري عمر الفيومي. الحرية نفسها يمنحها لنفسه في التلوين بين الاقتصاد والصخب في الألوان، حسب ما يمليه عليه الموضوع والتجربة التي يعيشها، لكنه يبقى فنان المشهد اليومي والواقع الاجتماعي في بيئة القاهرة القديمة التي لا يتصور نفسه بعيدًا عنها.
بيت الفنان ومرسمه في شارع "مختار باشا" بمنطقة "الدرب الأحمر". البيوت متلاصقة ذات مشربيات وأبواب عتيقة. تتسلل الشمس إلى داخل المرسم، وتنشر مربعاتٍ من الضوء والظل فوق اللوحات.
في 2019 أقيم معرض "عمر الفيومي 40 عامًا" يوثق رحلة الفنـان الطويلة، أما أحدث معارضه فقد أقيم في مايو الماضي، وضم 54 عملًا بينها لوحات في حجم راحة اليد وأخرى بأبعاد تتجاوز المترين ونصف المتر، تصور بشرًا في لحظات تأملهم أو ثرثرتهم أو لعبهم، في الشارع والمقاهي أو في شرفات بيوتهم القديمة بأصص ورودها.
قلت له: "أنت تصوِّر الطقوس اليومية الموغلة في العادية للناس فى الأحياء الشعبية. ماذا تحاول أن ترصد في أرواحهم؟!". قال: "البساطة. أحب البشر في جميع حالاتهم، في حركاتهم، وفي صمتهم، في اكتئابهم وسعادتهم، أحبهم في مزاحهم وجدَّهم".

أثر وجوه الفيوم وفن الأيقونة القبطي واضح في أعمال الفيومي.
الخوف من الأسماء
يستخدم الفيومي ألوان الزيت، وهي المفضلة لديه، بالإضافة إلى الإكلريك والرصاص أحيانًا. ما يحدد الخامة له هو ما يريده من اللوحة، حيث لا يعتبر الخامة مجرد أداة بل جزءًا من روح العمل. ويستقي لوحاته من البيئة التي يحبها. يقول: "أنا رجل بسيط وأعيش وسط بسطاء. أحبُّ الجلوس في المقهى والفرجة على الناس والبيوت القديمة. حياتي هنا وشغلي هنا وروحي هنا. كنت أذهب إلى المتحف المصري القديم وأتفرَّج على البورتريهات وأخرج إلى الشارع وأشعر حين أطالع ملامح الناس أنهم غافلوني وغادروا المتحف ليسيروا إلى جواري". يرفض أن يمنح اللوحة اسمًا. يرى أن كل لوحة تعبِّر عن نفسها بنفسها، وأي اسم قد يطلقه على إحداها ربما لا يعجب المتلقي وربما كذلك يوجِّهه ليتلقاها بشكل معين: "لا أريد أن أضع حاجزًا بين اللوحة والناس"!
لا يفضِّل الفيومي التجريد، ولكنه يميل أكثر إلى الواقعية. بإمكان اللوحة أن تنبض بالحياة: "أرسم ما أعيشه. لكنني بالطبع لا أنقل الواقع كما هو، هناك روح خاصة تستمدها كل أعمالي من العلاقة بين البيوت والشوارع والناس".
بعد أن يختار الفيومي فكرة لوحة يبدأ العمل عليها بحرية ودون قيود، وقد تأخذ شكلًا نهائيًا مختلفًا عما قرره، إذ يطلق لفرشاته العنان: "هذا لا يعني أنني لا أضع تصورًا سابقًا، لأن اختيار الألوان يأتي وفقًا للفكرة، ثم يحفر العمل مساره بعد ذلك على هذه المسافة أو تلك من التصور المبدئي".
أحبَّ الفيومي الرسم منذ أن تفتحت عيناه، يقول: "أتقنت الرسم قبل أن أتعلَّم القراءة والكتابة لكني لم أفكر وقتها أو أحلم بأن أكون فنانًا، كانت محض ممارسة استهوتني". في فترة الدراسة الثانوية سيطر النحت على الفيومي. في أحد الأيام أحضر مسمارًا ضخمًا ومطرقة وصعد إلى سطح البيت. كانت هناك سلَّمة حجرية لا يعرف من أي سلَّم اقتطعوها وألقوها فوق السطح. بدأ العمل على الحجر بالمسمار والمطرقة، ونحت وجه امرأة جميلة كثيفة الشعر تضع يدها على خدها، وانتابه الزهو، إذ لم يحصل على مساعدة، مما يعني أن بإمكانه أن يصبح نحَّاتًا. أبوه صفق له، وأمه خبطت يدها على صدرها، وقالت بانبهار: "ابني فنان عظيم!".
في اليوم التالي فوجئ بالأب يحضر له مطرقة وأزاميل متنوعة، إحداها مُسنّنَة والأخرى ناعمة، وقال له: "أنت الآن فنان، ولا يصح أن تعمل بمسمار بدائي!" كان الأب معلمًا عمليًا يدرِّس السباكة في ورش كلية الهندسة، ولذا حلم بأن يكون ابنه مهندسًا، لكنه منذ هذه اللحظة تركه يقرر مصيره بنفسه.
وحينما التحق بكلية الفنون الجميلة قرر أن يتخصص في النحت، وكانوا في إعدادي الكلية يدرِّسون كل شيء، الحفر والنحت والتصوير، والتخصص يأتي في مرحلة لاحقة. لكنه بعد مدة شعر أن النحت صعب وشاق ولا يناسبه: "قلت لنفسي، الأفضل أن أجرِّب في شيء آخر. أمضيت في قسم الحفر شهرين، أنهيت خلالهما مشروعيـن أو ثلاثة، غير أني لم أجد نفسي في الحفر أيضًا. لكن الجميل في كلية الفنون أنها لا تغلق الباب في وجهك أبدًا، يمكنك أن تجرب، وأن تدخل أي مكان، ولن يقول لك أحد ماذا تفعل هنا؟".

لا يسمي الفيومي لوحاته حتى لا يحدد أفق تلقيها. اللوحة جلسة سمر؛ قهوة ولعب ورق.
الرحلة إلى سان بطرسبرج
بعد الدراسة في القاهرة سافر الفيومي إلى روسيا، أمضى سبع سنوات في سان بطرسبرج، حيث تتلمذ في أكاديميتها العريقة على يد أندريه أندريڤيتش ميلنكوف، فنان الجداريات الكبير، يقول: "كان رئيس قسم التصوير هناك، معروف بالحزم والناس يهابونه. كان يشبه هنري ماتيس في ضخامته ويسير كالطاووس. وكنت قبل سفري أحضرت كتابًا ضخمًا عنه، وقرأت سيرة حياته ورحلته الفنية المهولة. وعرفت أنه زار مصر من 15 يناير إلى 15 فبراير عام 1957م، والمدهش أنني ولدت في 1 فبراير من ذلك العام".
ويضيف: "طلب مني هذا الأستاذ أن أصمِّم فكرة لوحة جدارية، ثم أعود إليه. وكان العمل قد بدأ في محطات المترو بالقاهرة، واخترت تصميم رسمة جدارية لمحطة التحرير. أعجبته الفكرة المبدئية لكنه حينما شاهد التصميم طلب إجراء بعض التعديلات، وجمعتنا المناقشة مرة على الأقل أسبوعيًا لمدة عام كامل، حتى حفظ الفكرة وصار يتحدث عنها أفضل مني".

الفيومي في مرسمه
من أين ينبع الحزن؟
تعددت مصادر التأثير لدى عمر الفيومي الذي تعكس لوحاته استيعابه العميق لحركة الفن التشكيلي المصرية والعالمية بما فيها الفنون الجدارية وفن الأيقونة، لكن الأثر الأكبر فيه يبدو لبورتريهات الفيوم التي يعشقها، بغض النظر عن مصادفة التشابه بين لقبه ونسبة البورتريهات!
سألته عن ذلك الأثر وعن المختلف في لوحاته، فأجاب: "في بورتريهات الفيوم التاريخية أجد أن الحزن كبير، والاكتئاب حاد. وهذا طبيعي، فهي رسوم كانت تُعَدُّ في ذلك الوقت لتُوضع على التابوت حينما يموت صاحبها، ومن الطبيعي أن يجلس الشخص أمام الفنان ويفكِّر في الموت".

لوحة في خلفية بورتريه.
من صخب الشارع إلى العزلة
في أيام الشباب اعتاد أن يرتدي بنطلونًا واسعًا له جيب ضخم، أطول من خمسين سنتيمترًا، ليستوعب الاسكتشات وقناني ألوان الأكواريل وزجاجة ماء صغيرة. كان الناس يحيطون به ليشاهدوا الرسمة وهي تكتمل رويدًا رويدًا، فيشعر بالسعادة البالغة. طاف الفيومي بمنطقة المغربلين شارعًا شارعًا، من أول باب النصر وحتى باب الفتوح.
يحكي: "انتظمتْ زياراتي في الفجر إلى القلعة. كانت خرابة شاسعة، لا أشاهد فيها سوى الخفافيش، ومع هذا أعثر داخلها على كنوز، مثلًا عثرت على ورقة واكتشفت أنها عقد زواج لأحد عساكر محمد علي باشا. ذهبت أيضًا إلى المنيب لأرسم ورش المراكب، بعد أن أشاهد عملية التصنيع ومزج الأخشاب بالصاج والقار. وخطر لي أن أقوم برحلة نيلية من القاهرة إلى أسوان بالمركب، لكن كان عليَّ أن أختار بين الرحلة أو الانتهاء من مشروع طلبته كلية الفنون الجميلة وإلا أرسب. وشعرت بعد ذلك بالندم البالغ، لكن الله عوضني، إذ عرض عليَّ صديق يمتلك مركبًا سياحيًا، جاء ليرممه في القاهرة، أن أعود معه إلى الأقصر ووافقت. ظللت طوال الرحلة أخزِّن مشاهد النيل والجُزر والقرى والمدن والأطفال والرجال الذين يسبحون أو يصطادون والنساء اللواتي يغسلن الأواني والملابس ويتهارشن على الشاطئ الضحل وسط الغاب والبوص والبردي. لم يكن على المركب بصحبتي سوى قبطانها ومدير الحسابات والملاحون والطباخون وقد تفننوا في إرضائي. عدت إلى القاهرة وشعرت كأنني هبطت لتوي من الجنة".
يبدو الفيومي الآن وكأنه اكتفى من الجولات وصار أكثر ميلًا إلى العزلة: "لم أعد قادرًا على تحمُّل الزحام، أصبحت ميالًا أكثر للعزلة والهدوء ولذلك أرسم من الذاكرة".
تصوير: علاء شريف