Hero image

الخاتم

يوليو - أغسطس | 2025

يوليو 10, 2025

شارك

من بين كل الحُلِيِّ التي يتزيَّن بها البشر يستقرُّ الخاتم في مكان وحدَه. وما من شيء يتناقض فيه صِغَر حجمه مع دلالاته الرمزية الكبيرة كما هو حال الخاتم.

بصريًا، هو مجرد حلقة مستديرة في الإصبع، ولكن مكانته في حياة الشعوب وتاريخها وثقافاتها أكبر من أن تُقاس. فسواء أكان الخاتم من معدن ثمين ترصّعه جوهرة، أم من زجاج أو خزف رخيص، لا ينتقص ذلك من أهمية دوره في حياة الشعوب، لا في الماضي، ولا في الحاضر. إذ كان، ولا يزال، للخاتم أكثر من وظيفة، من توقيع الوثائق الملكية في فجر الحضارات القديمة، إلى دلالته على الارتباط الأبدي ما بين الزوجين، مرورًا بالإعلان عن الهوية الشخصية أو المكانة الاجتماعية، أو حتى التبرُّج وما يتكشف عنه أو يدعيه. وبذلك، قدّم الخاتم نفسه للأدباء والفنانين مادةً لينسجوا حولها ما يشاؤون.

في هذا الملف، يأخذنا عزّت القمحاوي إلى عالم هذه الحِلْيَة الصغيرة ليطلعنا على الأدوار التاريخية التي أدَّتها على المستويين الاجتماعي والثقافي.

في كل بيت من هذا العالم يوجد خاتم واحد على الأقل.

فقد يتزيَّن البشر بالمعادن والأحجار النفيسة، التي تُصاغ على مختلف الأشكال من قلائد العنق والأقراط والأساور، وصولًا إلى الخلاخيل فوق كواحل الأقدام. ولكن الخاتم وحدَه، من بين كل هذه الأشكال من الزينة، صار رمزًا للارتباط الزوجي، بمعنى الوعد بحب أبدي. علمًا أن الخاتم في الغالب يعيش عمرًا أطول من الحب، لكن هكذا تجري الأمور!

ولكن هيهات من أن يختصر خاتم الزواج كل وظائف الخاتم الأخرى. فهناك خواتم التوقيع على الوثائق، والخواتم الدالة على سلطة سياسية أو اجتماعية معينة، وأخرى للدلالة على بعض المهن، أو الانتماء إلى منظمة ما، وغير ذلك الكثير. إضافة بالطبع إلى الخاتم الذي لا وظيفة له سوى إضفاء بعض الألق على مظهر صاحبه، أو حتى الإيحاء بمكانة اجتماعية معينة.

يقول علماء الآثار إن أقدم الخواتم التي وصلت إلينا تعود إلى وادي السند في شبه القارة الهندية، وقد عُثِر عليها مع حليٍّ أخرى تعود إلى أواخر الألفية الرابعة قبل الميلاد. ويرجّح هؤلاء العلماء أن وظيفتها اقتصرت، آنذاك، على التبرُّج فقط.

وفي منتصف الألفية الثالثة قبل الميلاد، استخدم الحثّيون خواتم عليها رموز، عُثِر على عدد منها في مدينة أور. ولكن سرعان ما تطوّر الخاتم على مستوى الصياغة والرمز حتى بلغ مستويات لا تزال تشكِّل حتى اليوم تحديات للصَّاغة في العالم على الإتيان فنيًّا بما يشبهها، وكان ذلك في مصر الفرعونية. 

فقد عرف الفراعنة الخواتم منذ عهد المملكة القديمة (2700 – 2200 ق.م)، وأضمروا احترامًا كبيرًا لشكل الدائرة هندسيًا وفلسفيًّا. فالدائرة تمثل مبادئ الوجود الجوهرية: مبدأ اللانهائية، ومبدأ التماثل، ومبدأ التكامل، وهي مبدأ التقدُّم الميكانيكي عبر عشرات القرون. ويكتنز الخاتم كل أهمية الدائرة، فبلغ ذروة الاهتمام به في مصر في المملكة الوسطى (2040 – 1782 ق.م)، حين وصلت صياغة الخواتم إلى ذروتها في دلالاتها الدينية وقيمتها الجمالية لما حملته من نقوش ورموز، حتى إن نوع المعدن وقيمة الأحجار الكريمة التي ترصع الخاتم بقيت في المرتبة الثالثة في الأهمية. ويمكن لزائر المتحف المصري بالقاهرة ومتحف مكتبة الإسكندرية، أن يرى مجموعة من الخواتم الفرعونية التي نُقِشت عليها الأدعية وأسماء الملوك، وما استُخدِم منها تمائمَ. 

ولم يكن الخاتم حكرًا على الطبقة العليا حتى في العصور القديمة؛ إذ تزيَّن المصريون بالخواتم من مختلف المعادن، وحتى من الفخار، وذلك بحسب مقدرتهم. وبهذا، يمكن اعتبار الخاتم علامة اجتماعية تعكس مكانة مرتديه.

ولمَّا آل حكم مصر إلى البطالسة، عرف الرومان الدلالات الرمزية التي يمكن للخاتم أن يكتسبها. ويُرجّح المؤرخون أن الرومان كانوا أول من استخدم الخواتم للدلالة على الرابطة الزوجية، إضافة إلى استخداماته الأخرى في توقيع الوثائق الرسمية الصادرة عن الملوك والحكَّام.

وفي كل الحضارات القديمة أسبغ الخيال الشعبي على الخواتم قدرات وما ورائية. فاستُخدِم بعضها للشعوذة والاحتيال والسحر. ولا تزال بعض آثار تلك الخرافات باقية حتى اليوم. فمن المدهش أن يظنّ البعض في القرن الواحد والعشرين أن خاتمًا مرصّعًا بنوع معين من الأحجار الكريمة يمكنه شفاء مريض، أو جلب الحظ السعيد أو مداواة الصداع وما شابه ذلك، من دون دليل أو تفسير علمي واحد. ولكن هذه الخرافات القديمة لم تكن خالية من الجدوى تمامًا؛ إذ إنها تسلّلت إلى الثقافات العامة ومنها إلى الآداب العالمية، كما سنرى لاحقًا في هذا الملف.

أقدم الخواتم التي وصلت إلينا تعود إلى وادي السند في شبه القارة الهندية.

old and islamic rings

 

الخاتم في الحضارة الإسلامية

نفهم من ابن منظور أن الخاتم في الحضارة الإسلامية كان ابتداءً حلية، ثم استُخدِم لخَتم الوثائق والرسائل، وهي الوظيفة الأشهر التي أعطت الخاتم الإسلامي طابعه الفني.

أشهر خواتم الحضارة الإسلامية، هو من دون شك، خاتم النبي محمد، صلّى الله عليه وسلم. إذ تُشير المصادر إلى أنه كان للرسول خاتم من فضة يضعه في يده اليمنى، نُقِش عليه "محمد رسول الله" في ثلاثة أسطر، اصطنعه عندما أراد مكاتبة كسرى وقيصر والنجاشي، فقيل له: "إنهم لا يقبلون كتابًا إلا بختم". ونظرًا لما كان لاستخدام الخاتم من أهمية في خَتم الرسائل عيّن الرسول خازنًا على خاتمه هو معيقيب بن أبي فاطمة، رضي الله عنه. وانتقل هذا الخاتم بعد وفاة النبي، صلّى الله عليه وسلم، إلى أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان، رضوان الله عليهم. غير أنه ضاع عندما سقط من يد عثمان في بئر.

ويقول القلقشندي إن اتخاذ الخاتم المنقوش كان يُعدُّ من شعار الخلافة. واستمر هذا التقليد حتى زوال الخلافة من بغداد العباسية. حتى إن معاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنه، أنشأ ديوانًا خاصًا أطلق عليه "ديوان الخاتم"، وذلك بعد تزوير إحدى مكاتباته. وكان لكل خليفة نقشه الخاص المعبّر عن قيمة إيمانية ما. وتوجد على شبكة الإنترنت دراسة موسَّعة حول النقوش الخاصة بالخلفاء وكبار القادة في العالم الإسلامي، يمكن لمن يهمه الأمر أن يعود إليها.

ما يهمنا هو أن نقش كلمات قليلة، سواء كانت أدعية أو تعبيرًا عن قيمة إيمانية أو حتى اسم صاحب الخاتم، أصبح من السمات البارزة التي أعطت الخاتم الإسلامي هويته الفنية، ولا تزال كذلك إلى حدٍ ما حتى اليوم، على الرغم من أن الخاتم فقد وظيفته بوصفه خِتمًا للوثائق منذ زمن طويل. وبعد المهارات اليدوية القديمة، أتاحت الوسائل التقنية الحديثة نقش نصوص مؤلفة من أكثر من عشر كلمات على حصٍ لا تزيد مساحته على السنتيمتر المربع، أو على معدن الخاتم مباشرة.

ولمناسبة الحديث عن المعدن، نشير إلى انتصار الفضة على الذهب في صياغة الخواتم في العالم الإسلامي، من دون أن يعني ذلك تطاولًا على قيمة هذا الأخير، بل تقديرًا خاصًا لجمال الفضة. فإضافة إلى أن الإسلام ينهى الرجال عن التزيُّن بالذهب، فإن الفضة معدن "أكثر ديموقراطية" من الذهب، إن جاز التعبير، يتيح لجميع طبقات المجتمع امتلاكه والتزيُّن به. ولذا، فإن خواتم الرجال، التي تُصنع اليوم في العالم الإسلامي، هي من الفضة المرصّعة غالبًا بأحجار كريمة غير باهظة الثمن، مثل الفيروز واللازورد والعقيق. وينطبق الأمر نفسه على ترصيع الخواتم بالجواهر الثمينة الموجهة للأثرياء، مثل الماس والياقوت وغيرهما. ومثل هذا، لا نجده في فنون الصياغة الغربية التي تستخدم معدني الذهب والبلاتين للجواهر الثمينة. 

خاتم سليمان

أدبيًا، أشهر الخواتم على الإطلاق هو خاتم سليمان عليه السلام، النبي الملك. فالمسلمون يؤمنون بأنه كان للنبي سليمان معجزات خاصة أكرمه الله بها، منها تسخير الجن والرياح والنمل والطير، وهي مذكورة في القرآن الكريم. أمَّا قصص خاتم سليمان، بالشكل الذي شاع في الروايات والأساطير، فليست جزءًا من العقيدة. 

تعود أقدم الإشارات إلى ختم أو خاتم سليمان إلى المؤرخ يوسيقوس في القرن الأول الميلادي. وتذكر إحدى الأساطير أن جنيًّا استولى على الخاتم وحكم مكان سليمان أربعين يومًا، ثم ألقاه في البحر، فعثر عليه صياد داخل بطن سمكة وأعاده إلى سليمان. وتعاظمت أسطورة الخاتم هذه لاحقًا في ثقافات العصر الوسيط، في الأندلس وغيره.

تُنسب القوة المزعومة لهذا الخاتم إلى رموزه وكتاباته، التي يُعتقد أنها مكَّنت الملك النبي من تسخير الجن ومخاطبة الحيوانات. وتبدو الأساطير المرتبطة به تجميعًا للأساطير الشعبية في العالم القديم، ولا سيَّما في حضارة الرافدين والحضارة المصرية القديمة. فقد أصرَّ الفلكلور الشعبي القديم على هذه القوة السحرية لخاتم سليمان، وتبنَّت الأساطير والقصص الشعبية في العالم كله هذه الأسطورية. بل وضعت تصورات لشكل الخاتم وما كان عليه من نقش، من دون وجود أي إثبات على هذا الزعم.

ولكن ما تقدَّم لا ينفي أن ما حاكه الخيال الشعبي حول خاتم سليمان ترك بصمات على الخيال الأدبي لا تزال ظاهرة حتى اليوم. 

فقد استعار عالم الحيوان النمساوي، كونراد لورنتس، معرفة النبي سليمان بلغة المخلوقات الأخرى، وجعلها عنوانًا لكتابه الشهير الموجَّه لغير المتخصصين: "خاتم الملك سليمان". وحصل لورنتس (1903 - 1989م) على جائزة نوبل لجهوده في تعميم عِلم نفس الحيوان. لكن شهرته العالمية جاءت من الكتاب الذي أصدره بالإنجليزية حول طبائع الحيوان ومقارناته الساخرة مع الإنسان.  ومن الأمثلة على ذلك، أن الصراع بين حيوانين من النوع نفسه لا يصل أبدًا إلى حد القتل كما يحدث بين البشر، فالضعيف ينسحب، ويكتفي القوي بذلك دون مطاردة ابن جنسه حتى الموت. 

ring measurment

صناعة الخاتم اليوم

لم ينتهِ تمامًا عصر الصائغ الحرفي الذي يُمضي أيامًا وأسابيع لصياغة خاتم، ولكن ما كان حرفة يدوية منذ فجر التاريخ وحتى الأمس القريب، بات صناعة عالمية عملاقة تعيش في وقتنا الحاضر حالة من التنوُّع الكبير غير المسبوق والتطوُّر التكنولوجي الملحوظ، وتتأثر بعوامل عديدة، أهمها: الذوق العام، والموضة، والاقتصاد، والتكنولوجيا.

ومن أبرز ملامح هذه الصناعة اليوم التنوُّع الكبير في المواد والتصاميم؛ إذ لم تعد صناعة الخواتم مقتصرة على الذهب والفضة والأحجار الكريمة الطبيعية، بل دخلت فيها مواد جديدة، مثل: التيتانيوم، والتنغستن، والسيراميك، والفولاذ المقاوم للصدأ، والأخشاب المعالجة، والراتنج. بالإضافة إلى ذلك، أصبحت الأحجار الكريمة الاصطناعية جزءًا أساسًا؛ فليس هناك اليوم حجر كريم طبيعي لا يمكن تصنيعه في المختبرات، بدءًا من أرخصها مثل الكوارتز، وصولًا إلى أغلاها مثل الماس. 

وقد تدخلت التكنولوجيا الحديثة في صناعة الخواتم عبر الطباعة ثلاثية الأبعاد لتصميم نماذج دقيقة بسرعة وكلفة أقل. وهناك برامج التصميم ثلاثي الأبعاد التي تُتيح للمصممين تقديم معاينات مفصلة للعملاء قبل التنفيذ. كما أن الذكاء الاصطناعي بدأ يُستخدم في اقتراح تصاميم بناء على ذوق العميل.

ولأن الإنترنت تضع كل خواتم العالم أمام أنظار المستهلكين أينما كانوا، ازداد شراء الخواتم عبر الإنترنت. فهناك منصات عديدة، مثل: Blue Nile، وBrilliant Earth، وJames Allen وغيرها، تُتيح اختيار الحجر والمعدن والتصميم، بالإضافة إلى معاينة ثلاثية الأبعاد، وشحن عالمي، مع شهادات توثيق.

غير أن هذه الصناعة تُواجه تحديات عديدة أبرزها ارتفاع أسعار الذهب والفضة، التي وصلت خلال الأشهر القليلة الماضية إلى مستويات فلكية، وهو ما يجعل الخواتم الثمينة أكثر كلفة. ومع ذلك، هناك بدائل شعبية بأسعار معقولة دون التضحية بالشكل الجمالي، مثل النحاس المطلي بالفضة أو الذهب.

وهناك أيضًا الاتجاه نحو الاستدامة، التي فرضت نفسها بوصفها قيمة أخلاقية على كل الصناعات. كما أن الأخلاقيات صارت تؤدي دورًا أكبر. فجيل اليوم، ولا سيَّما في الغرب، يهتم بأسئلة مثل: هل هذه الماسة مستخرجة من منطقة صراع؟ هل الخاتم صُنع بطريقة مستدامة؟ وهذا ما غيّر توجّه كثير من الشركات نحو استخدام مصادر موثوقة وشفافة.

فارتفاع الطلب على خواتم "أخلاقية"؛ أي غير المرتبطة بالاستغلال أو النزاعات، خاصة الأحجار الكريمة، حلَّ محل الطلب القديم على خواتم الشعوذة والخرافات الشعبية.

وبوجه عام، أصبح المستهلك أكثر ذكاء ووعيًا. والباحث عن خاتم صار يبذل جهدًا كبيرًا في البحث والمقارنة قبل الشراء، سعيًا وراء "الخاتم الذي يناسب الشخصية أكثر من الموضة". 

 

pridegroom ring

خاتم الخطوبة الرمز والقضية

لا تزال خواتم الخطوبة في وقتنا الحاضر تحافظ على رمزيتها التقليدية. لكنها شهدت تحوّلات كبيرة في الشكل والمضمون، نتيجة تغيّر الذوق العام، وتطوّر التكنولوجيا، وتنوع التأثيرات الثقافية والاقتصادية الجديدة.

تقليديًا، كان خاتم الخطوبة عبارة عن حلقة مستديرة وبسيطة جدًا من معدن الذهب أو الفضة. وكان الخاتم نفسه ينتقل عند عقد القران من يد إلى يد. ولكن المجتمعات الغربية، ومنذ بدايات القرن العشرين، أضافت إلى خاتم الخطوبة خاتمًا ثانيًا سمَّته "خاتم الزواج"، وبدّلت الأدوار بينهما. فصار خاتم الخطوبة عبارة عن خاتم كبير مرصّع بحجر كريم أو أكثر (السوليتير)، وأصبح الحلقة المستديرة (المحبس) خاتم الزواج. ولم يكن من الصعب أن يتفشّى مفهوم "الخاتمين" في العالم بأسره، حتى في المجتمعات التي تفضّل فيها النساء الحلي المصنوعة من الذهب فقط، كما هو الحال في المجتمعات الآسيوية، مثلًا. ولكن طالما أن النساء يفضلِّن خاتمين على واحد، والعريس مضطر إلى تقديم أقصى ما يمكن تقديمه للحصول على الرضا، راج تقديم خاتمين للعروس: واحد بسيط مستدير الشكل تمامًا (المحبس أو الدبلة)، وواحد مرصّع بحجر كريم (ألماس في الغالب) وهو "السوليتير" الذي دخل قاموس الصياغة، إضافة إلى خاتم ثالث للزوج.

 

حكاية "السوليتير"

مع أن مفردة "السوليتير" تعني الوحيد؛ أي الخاتم المرصّع بحصّ كريم واحد، لم يعد الناس يسمعون بهذه الكلمة غير الخاتم الماسي. وظاهرة وجوب تقديم العريس خاتمًا ماسيًا دون غيره من الأحجار الكريمة، هي حديثة العهد نسبيًا، وتعود إلى الحملة الترويجية التي أطلقتها شركة الماس "دي بيرز" في ثلاثينيات القرن الماضي حين عانت تجارة الماس من الركود، فحاولت ربط الماس تحديدًا بديمومة الحب، وذلك من خلال الشعار القائل: "الماس يدوم إلى الأبد"، الذي ابتكرته للشركة امرأة كانت تعمل في حقل الإعلان وتُدعى فرانسيس غريتي. وإلى هذه الشركة تعود الفكرة القائلة إن على العريس أن يقدم خاتمًا باهظ الثمن لعروسه. فروّجت في الثلاثينيات من القرن الماضي، وجوب أن يكون ثمن خاتم الخطوبة مساويًا لمدخول العريس خلال شهر واحد. ومن ثَمَّ، رفعت هذه القيمة في الثمانينيات إلى ما يعادل مدخول شهرين. وفي عام 2012م، رفعتها مجددًا إلى مدخول ثلاثة أشهر. واقتنع الملايين في الغرب بوجوب الالتزام بهذه القاعدة، وكأنها شرط لا بدَّ منه لإتمام الزواج. غير أن الأمور بدأت تتغير في الألفية الجديدة.

فقد أسهم ارتفاع ثمن الماس مع كثرة رواج الطراز نفسه (فالنساء تنفر مما هو شائع عند غيرهن)، في توجُّه جيل اليوم صوب أحجار كريمة أخرى، مثل اليواقيت على أنواعها والتورمالين الأرخص ثمنًا، حتى وإن كانت أقل صلابة من الماس ولن تدوم إلى الأبد.

 

hand with a rings

أصابع وخواتم

لاختيار الإصبع الذي يُوضع فيه الخاتم، رموز متعارف عليها عالميًا أحيانًا، ومحلية أحيانًا أخرى. في معظم المجتمعات العربية يوضع خاتم الخطوبة في بنصر اليد اليمنى، ويُنقل عند الزواج إلى بنصر اليُسرى. وفي الغالب، لا يرتبط الأمر بالأفضلية المستقرة إسلاميًّا لليد اليمني، بل للتأثر بالعادات العالمية. 

يعود وضع خاتم الزواج في بنصر اليد اليسرى، إلى معتقد روماني قديم بوجود "وريد الحب" الذي يربط هذا الإصبع مباشرة بالقلب. والخاتم في الخنصر هو خاتم العائلة وخاتم المهنة في بعض الثقافات الأوروبية، ويضع البعض الخاتم في الإصبع الوسطى لأسباب جمالية وعملية تتعلق بالتوازن البصري وسهولة استخدام اليد، ومن جانب آخر، لكونه أطول الأصابع، وهو ما يلفت النظر إلى الخاتم بوصفه إشارة إلى الرغبة في إبراز الذات. في حين تُستخدم السبابة لخاتم القوة والسلطة، وكانت في العصور الوسطى موضعًا لخاتم الكهنة. أمَّا وضع الخاتم في الإبهام، فهو رمز للقيادة والطموح، وكان تاريخيًا يشير إلى الرتب النبيلة، ويُعدُّ هذا اختيارًا غير تقليدي. وهناك من يتعمد تشويش هذه الرمزيات بارتداء الخواتم في ثلاثة أصابع أو أكثر، وفي هذه الحالة، تعمل الخواتم بوصفها إشارة إلى التأنق الزائد والشجاعة في تحدي التقاليد والذوق العام.

 

الخاتم في الآداب العالمية
من "ألف ليلة وليلة" إلى الفانتازيا الحديثة

شقَّ الخاتم طريقه إلى الأدب منذ الحضارات القديمة، وإن كان ذلك بنحو أسطوري زعم لنفسه الواقعية. ففي كتابه "التواريخ"، يروي هيرودوت أن بوليكراتس حاكم جزيرة ساموس كان حليفًا للفرعون المصري أحمس الثاني (في القرن السادس قبل الميلاد)، وكان الفرعون يعتقد أن الحظ المفرط قد يكون شؤمًا على صاحبه. فنصح بوليكراتس بالتخلي عن أغلى شيء لديه لكي يتوازن حظه؛ فألقى الأخير بخاتمه الذهبي المرصّع بالزمرد في البحر. لكن صيادًا وجده في بطن سمكة وأعاده للحاكم. وحين عرف أحمس الثاني بالواقعة قال: "لا يمكن لهذا الحظ إلا أن يُودي بصاحبه إلى نهاية شنيعة". فقاطع بوليكراتس الذي انتهى بالفعل نهـاية حزينـة إذ أُسر وصُلب.

Salvador Rosa Polycrates and the fishermen

لوحة ”بوليكراتس والصياد“ لسلفاتور روزا.

ولكن أبرز حضور للخاتم في عمل أدبي هو ما نجده في "ألف ليلة وليلة".

يظهر الخاتم في "ألف ليلة وليلة" قبل ظهور شهرزاد. عندما تتمكن جنيَّة من إجبار الملكين شهريار وشقيقه الأصغر شاه زمان على أن يعطيانها خاتميهما، مهددِّةً إياهما بإبلاغ عفريت عن خيانتها له معهما.

وبتوالي الحكايات التي ترويها شهرزاد لشهريار ليلةً بعد ليلة، ومع التقدُّم في الليالي حكاية بعد أخرى، نكتشف أن واقعة تسليم الأخوين لخاتميهما، التي بدت عابرة وفكاهية إلى حدٍّ ما، ليست مجرد واقعة بسيطة، بل سيظل الخاتم محور العلاقة المحفوفة بالخطر بين شهريار وشهرزاد، التي لن تكفَّ عن إسماعه هذه الكلمة: خاتم! 

لا يوجد شيء يتكرَّر في الليالي بقدر تكرار الخواتم، سواء كان ذلك في دور مركزي بحكاية، أو بتشبيه فم جميل بخاتم سليمان، أو بالقسم بحق النقش على خاتم سليمان، أو ظهور هذا الخاتم على سدَّادة الرصاص التي تُغلق فوهة القمقم على الجني. هذه وسيلة جيدة لصناعة الفانتازيا، لكن كثيرًا من الفانتازيا في الحكايات حدثت بعيدًا عن الخواتم. لهذا، بوسعنا التفكير في أن هيمنة خاتم سليمان على أجواء الليالي، كان لوظيفة أخرى هي تذكير شهريار بأهمية خواتم الملوك وخطورتها، ومن ثَمَّ، خطورة تفريطه هو وأخيه في خاتميهما.

يظهر خاتم سليمان بعد ظهور شهرزاد في الليلة الثالثة ضمن "حكاية الصياد مع العفريت"؛ إذ سيظهر أول قمقم في الليالي "من نحاس أصفر فمه مختوم برصاص عليه طبع خاتم سيدنا سليمان". 

ويظهر خاتم سليمان في الليالي وسيلة للاستعطاف. ففي الليلة السابعة والسبعين بعد المائة، تلتقي العفريتة ميمونة في السماء بعفريت يُدعى دهنش "فانقضت عليه انقضاض الباشق، فلما أحسَّ بها دهنش وعرف أنها ميمونة بنت ملك الجان خاف منها وارتعدت فرائصه. وقال لها: أقسم عليك بالاسم الأعظم، والطلسم الأكرم، المنقوش على خاتم سليمان أن ترفقي بي ولا تؤذيني". 

كما يظهر الخاتم نفسه بوصفه حلًا سحريًا عندما تستحيل الحلول. ففي قصة "علاء الدين والمصباح السحري"، التي أضافها أنطوان غالان إلى متن الليالي في ترجمته الفرنسية، لتشابهها مع روح النص الكبير، تكمن القوة السحرية الكبيرة في المصباح التي سيتمتع بها الصبي. لكن الخاتم السحري الذي زوَّده به الساحر الإفريقي، هو ما سيفتح له باب المغارة بعد أن أُغلق عليه.

Arabian Nights manuscript

كتاب ألف ليلة وليلة.

thousand and one nights

رسومات من "ألف ليلة وليلة".

في الليلة التاسعة والثمانين بعد التسعمائة من طبعة برسلاو، تروى حكاية أخرى عن خاتم نسيه صاحبه المتعجل تحت وسادة زوجة مُخلصة لم تُمكِّنه من نفسها. 

ويتواصل بثُّ الإشارات السريعة إلى الخواتم، حتى إذا كانت الليلة الثالثة والستون بعد التسعمائة تعود شهرزاد لتضرب من جديد، فتحكي لشهريار "حكاية قمر الزمان وزوجة الجوهري". هذه الحكاية تجعل الخاتم مركزًا لخيانة يرتكبها الرجال. والقصة، بتبسيط مُخلٍّ، تحكي عن ابن أحد التجَّار يسمع عن جمال زوجة صائغ حلي في البصرة. يسافر ويلتقي بالصائغ ويكلفه بصياغة خاتم له، وبسبب الكرم الذي أبداه الشاب يستضيفه الصائغ ليبيت عنده، فتُتاح الفرصة لوقوع الخيانة. 

أبرز حضور للخاتم في عمل أدبي هو ما نجده في "ألف ليلة وليلة".

 

وفي الرواية الغربية من بوكاشيو إلى بروست

ظهرت خواتم ألف ليلة وليلة، أو ما يشبهها، في عدد كبير من الأعمال الروائية الغربية.

ففي الليلة الثانية من "الديكامرون" (1350م) للإيطالي بوكاشيو، تحكي الملحمة المبنية على غرار "ألف ليلة وليلة" عن تحدٍّ في السفر بين شخصين: بيرنابو الذي يتفاخر بشرف زوجته، وأمبروجولو الذي يفاخر بقدرته على إغواء أية امرأة. واحتال هذا المتفاخر وتسلل إلى غرفة الزوجة المخلصة بمساعدة خادم فاسد، وسرق خاتمها وشيئًا من ملابسها ليدعي عليها كذبًا.

قرأ بورخيس "ألف ليلة وليلة" عبر الترجمة، وهو كاتب ساخر. ومن بين ألعابه في السخرية أنه يخلط بين البحث والإبداع، وقد أعجبه أن يطوّع الليالي لفلسفة "العود الأبدي" التي يؤمن بها ويجعل الكتاب لا نهائيًا؛ لأن شهرزاد بين كل بضع مئات من الليالي ستعود وتحكي للملك قصته، وهكذا إلى الأبد. 

لكن الحقيقة أن قصة تلك الليلة تُعدُّ معارضة تامة لقصة شهريار. فهي تحكي عن شاب قليل الخبرة، وهو ابن ملك، خرج ليتنزه فقابل امرأة تخون العفريت، وأخذت خاتمه. وعندما عاد وعرف أبوه بالقصة غضب عليه غضبًا شديدًا، حتى إنه عزم على قتله. وهكذا تجعل القصة عقوبة التخلي عن الخاتم مساوية لتخلي المرأة عن شرفها.

tale from the Decameron

لوحة ”الديكامرون“ لجون وليام.

وفي رواية "دون كيخوتى" (1605م)، مشهد قصير، ولكنه يختزل الكثير من رمزية الخاتم التاريخية. ففي الفصل السابع والعشرين يروي الشاب كاردينيو قصة خديعة أودت به إلى أن يخطب فتاة لا تحبه. ولم يكتشف ذلك إلا وقتَ عقد القران، فراح يراقب ترددها بقلق خافت، متوقعًا أنها ستستلُّ خنجرًا لتطعنه به. لكنها نطقت بصوت ضعيف ومتخاذل: "أقبل"، ووضع دون فرناندو في إصبعها الخاتم "لينعقد بينهما رباط غير قابل للحل. اقترب العريس لاحتضان عروسه، بينما هي وضعت يدها على قلبها، وسقطت مغشيًّا عليها بين يدي أمها". وسيتكرر مشهد التردد هذا عند ارتداء الخاتم في مئات الروايات والأفلام السينمائية الغربية فيما بعدُ، ليمثّل ذروة الشحن الدرامي؛ لأن دخول الإصبع في الخاتم قد يكون مثل دخول الفأس في الرأس.

وفي الأدب الروسي، يُصيب الحبُّ رجال دوستويفسكي مثل لوثة أو وباء مستحكم. وكما في "ألف ليلة وليلة" يأخذ جمال المرأة لديه حدودًا قصوى بألفاظ عمومية. ففي روايته "حلم العم"، يصف الفتاة "زينا" المتلاعبة شأنها شأن كثير من بطلاته. ومن جملة ألاعيبها، كانت هذه الفتاة ترتدي خاتمًا عبارة عن خصلة شعر، لا يبدو أنه شعر أمها، وكان هذا يزرع الشك في قلب الرجال الذين تعلقوا بها من دون أن يعرفوا سرَّ الخاتم ومن دون أن يتوقفوا عن محاولات الفوز بقلبها.

ring in novels

خاتم "زينا" عالي الرمزية، لكنه قليل القيمة المادية والتفاصيل بما يتناسب مع خيال كاتب فقير. في المقابل، يظهر الخاتم لدى مارسيل بروست بما يتناسب مع الطبقة الأرستقراطية، من الفخامة والجمال والتفاصيل الفنية. في مجلد "الشاردة" من ملحمة بروست الروائية "البحث عن الزمن المفقود" تترك ألبرتين رسالة للراوي مع الخادمة فرانسواز، ثم ترحل. وبينما ترتب فرنسواز غرفة ألبرتين، تكتشف أنها نسيت خاتميها. كانت ردة فعل الصديق المهجور تمنيًا خالصًا، حيث قال: "لا تشغلي بالك؛ لأن غيابها لن يطول. أعطني إياهما وسأرى". وترد فرنسواز الخبيثة بما يشعل غيرته: "فلينتبه سيدي لئلا يضيعهما فهما خاتمان على ما أرى جميلان. لا أعلم مَن الذي أعطاهما إياها، أهو سيدي أم شخص آخر، ولكنني أعرف أنه غني وصاحب ذوق رفيع". فيجيب كأنه يدافع عن رغبته في تعديل الماضي والمستقبل: "لست أنا. فالخاتمان لا يأتيان من الشخص نفسه. عمَّتها هي التي أعطتها الخاتم الأول، والثاني اشترته هي بنفسها". ولكن الخادمة لا تسكت، بل تظل تجادل بأن الذوق يؤكد أن مصدر الخاتمين واحد. وبمتعة خبيثة تصف تطابق الخاتمين باستثناء حصّ الياقوت الأحمر الذي أُضِيف إلى أحدهما، فكلاهما نُقشت عليه صورة نسر وحُفرت فيهما من الداخل الحروف نفسها". يلحظ الرجل خبث الخادمة، لكنه ينزلق إلى مزيد من الدفاع، فيقول ما يزيد شكوك القارئ: "كيف النسر نفسه؟ أنت مجنونة، على الخاتم الذي لا يحمل قطع الياقوت رأس رجل!".

أصرَّت المرأة وأحضرت العدسة المكبرة، وفي النهاية قالت منتصرة: "ولكن ما يُدهشني هو أن السيد احتاج إلى كل هذا ليرى أن الخاتمين واحد". وأخيرًا، صار إلى الحال التي كافح ليتفاداها: "كنت أحمل الخاتمين في يدي ذاهلًا، وكنت أنظر إلى ذلك النسر معدوم الرحمة الذي كان منقاره يُعذّب قلبي". وأخذ المسكين يُفكِّر في الرجل المجهول الذي كان النسر يرمز على الأرجح إلى هويته.

 

خواتم الشر في الفانتازيا الأدبية والسينمائية

الأساطير القديمة التي أسبغت بخيالاتها على الخاتم قدرات سحرية، كانت وراء اثنين من أشهر الأعمال الأدبية التي صورتها السينما في عصرنا.

العمل الأول هو ثلاثية "سيد الخواتم"، (وتشمل: رفقة الخاتم، والبرجان، وعودة الملك) للكاتب الإنجليزي، جون رونالد ورويل تولكين، الذي كتبها على مراحل ما بين عامي 1937م و1949م، ونُشرت عام 1954م.

تقوم حبكتها على القوة السحرية للخاتم الذي صنعه سيد الظلام "سورون" للسيطرة على العالم، ويحتدم الصراع عندما يقع الخاتم في يد الهوبيت فريدو باجنز، الذي يسعى إلى تدميره في نيران جبل الهلاك.

ring on the map of middle earth

صارت هذه الثلاثية أشهر من أن تُعرَّف في كل الثقافات؛ إذ اقتُبِست للإذاعات أربع مرّات، بدءًا بالإذاعة البريطانية "بي بي سي" عام 1955م. كما صوّرت تلفزيونيًا، إمَّا بكاملها أو بجزء منها، في السويد والاتحاد السوفيتي (سابقًا) واليابان وكندا. وحلم كبار المخرجين السينمائيين بتصويرها للسينما، ومن بينهم ستانلي كوبريك الذي خلُص إلى أن هذه الرواية لضخامتها وموضوعها غير قابلة للاقتباس السينمائي. إلى أن تصدَّى لهذه المهمة المخرج بيتر جاكسون. وعُرضت هذه الثلاثية سينمائيًا تباعًا خلال ثلاثة أعوام متتالية بدءًا من عام 2001م. فاز جزءها الأخير بإحدى عشرة جائزة أوسكار.

أمَّا العمل الثاني، الذي يظهر فيه خاتم الشر، فهو الرواية الحديثة الشهيرة "هاري بوتر" التي تشبه موسوعة للأساطير لم تستغنِ بدورها عن الخاتم السحري. لكن الخاتم في سلسلة روايات هاري بوتر، التي صوّرتها السينما أيضًا، ليس مركز الحبكة كما في "سيد الخواتم"، وإن كان حضوره مهمًا. فخاتم مارفولو غاونت يمتلك في هذه الرواية قوة الشر نفسها؛ لأنه مُزيَّن بـ"حجر القيامة"، وهو واحد من "الهوركوكسات" التي استخدمها فولدمورت لحفظ روحه، ويجب تدمير الخاتم لإضعاف مارفولو. والخاتم مؤصل، تتوارثه عائلة مارفولو، وهذا وجه آخر للخواتم، يظهر حتى في الأفلام الواقعية، حيث يكون توارث الحلي أحد أدلة عراقة العائلة. 

كلمة (Horcrus) هي من اختراع الكاتبة جوان كاثلين رولنغ، وتُشير بها إلى حبس الروح داخل شيء مادي للحفاظ عليه. وفي الرواية نماذج مختلفة لمخازن الروح، منها قلادة سالازار سليذرين وكأس هيلغا هافلباف.

تستمد قصص الخواتم الخيالية في الرواية الغربية جزئيًا من "ألف ليلة وليلة"، لكن الأساس يأتي من الأساطير الإسكندنافية والألمانية القديمة، مثل ملحمة "نيبينولغن"، حيث كان الخاتم المسحور جزءًا من كنز نيبيلونغ، يمنح القوة ويقود إلى المأساة. وقد وجد هذا الخاتم طريقه حتى إلى الموسيقى في أوبرا "خاتم النيبلونغ" لريتشارد فاغنر، الذي صاغ الأسطورة بطريقة تعارض طبيعة الخاتم بوصفه رباطًا للحبِّ. تبدأ الأوبرا بوجود كنز من الذهب في أعماق نهر الراين تحرسه أربع حوريات، لا يمكن تشكيل خاتم منه إلا إذا تخلَّى صاحبه عن الحبِّ. ويأتي قزم يخدع الحوريات ويستولي على الكنز ويشكِّل منه خاتمًا يمنحه قوة غير محدودة للسيطرة على العالم، ويصبح الخاتم محور الصراع في الأوبرا ينتقل من يد إلى يد. وتنتهي القصة بإعادته إلى الحوريات، فتشتعل "النيران المقدسة" التي تحرق العالم وتطهره في آنٍ.

Fellowship of the ring

صورة من فِلم سيد الخواتم، وهي سلسلة مغامرات فنتازيا ملحمية مكونة من ثلاثة أفلام من إخراج بيتر جاكسون

الخواتم المسمومة!

أيمكن لهذه الحلي الصغيرة أن تكون سلاحًا، وليس أي سلاح، بل سلاحًا صامتًا ومستترًا وصغيرًا يُبقي صاحبه على بعد خطوة من الموت؟ إنها الخواتم المسمومة. 

في المسافة بين التاريخ والروايات الشعبية الخيالية، يُروى أن الزبَّاء، ملكة تدمر نائلة بنت عمرو بن الظرب العمليقي، دخلت في صراع مع عمرو بن عدي بن نصر، حتى إذا علمت بدخوله متنكرًا إلى قصرها وأدركت أنها مقتولة لا محالة تجرَّعت السُّم. وتذكر مصادر مثل تاريخ الطبري، أنها طلبت من خادمها قارورة سُمٍّ كانت جاهزة وتجرَّعتها. لكن الجاحظ يذكر في "المحاسن والأضداد" أنها قتلت نفسها بخاتم مسموم: "فَلَمَّا أبْصَرَتْ عَمرًا عَرَفَتْهُ بالصُّورَةِ فَمَضَّتْ سُمًّا كَانَ بخَاتَمِهَا وَقَالَتْ قَوْلَتَهَا المَشْهُورَة: بيَدِيْ لا بيَدِ عَمْرُو وَلا بيَدِ العَبْدِ». وبقي المثل حتى الآن أشهر الأمثال على مَن يختار أمرًا مُرًّا استباقًا لأمر أمرَّ منه.

الحفاظ على الكرامة كان أيضًا الدافع وراء انتحار القائد القرطاجي هنيبعل بخاتم آخر. ففي عام 202 قبل الميلاد، خسر معركته في مواجهة القائد الروماني سيكيبيو الإفريقي، فتدهورت سلطته في قرطاج، ولجأ إلى عدة ممالك في الشرق. لكن روما استمرت في ملاحقته والضغط من أجل تسليمه. وفي الاختيار بين الأسر والموت آثر هنيبعل الانتحار. وتُجمع المصادر على أنه كان يحتفظ بالسُّم قريبًا منه أينما ذهب، وتُشير بعضها إلى أن ذلك السُّم كان في خاتمه. 

حتى العصور الوسطى، كان الخاتم المسموم سلاحًا خفيًّا للقتل في الأوساط الاجتماعية والسياسية العليا في أوروبا، وانتحار العملاء والجواسيس في اللحظة المناسبة بعد أن ينكشف أمرهم. كان فصُّ الخاتم بمنزلة وعاء للسُّم، يُفرغ في طعام الضحية. وفي بعض الأحيان، كانت مقصورة السُّم تتضمن إبرة يُجرح بها الخصم لينتشر السُّم مباشرة في دمه. 

ليس من المُرجح أن يكون هناك كثير من الناس قد لقوا حتفهم بسموم الخواتم؛ لأن فصَّ الخاتم لا يتسع إلا لقطرات، ويتطلب الأمر مهارة شديدة لتحضير سُمٍّ يُميت من قطرة. وكان الأكثر شيوعًا هو وضع العطر، أو شيء من أثر شخص عزيز مثل الشعر والأسنان، وغير ذلك من الآثار والتذكارات الصغيرة. وبحسب الكاتبة مارسي والدي، في مقالها بمجلة "أنتيكس أند كوليكتنج" بعنوان "خاتم للموت.. خواتم السموم تحمل قرونًا من الأسرار"، فقد نشأ هذا النوع من الخواتم، التي يحوي فصّها خزنةً، في الشرق الأقصى والهند، بوصفها بديلًا لارتداء التذكارات حول الرقبة، ثم أصبحت الخواتم عملية أكثر فانتشرت في الشرق الأوسط قبل أن تصل إلى أوروبا.

 

ring and the seal

ختَمَ، يَختِمُ، خَتْمٌ، خِتَامٌ وخَاتَمٌ

تتسع دلالات كلمة "الخاتم" اللغوية من كونه حلية إلى معانٍ متعددة، منها: إحكام الغلق، والتوثيق، وإتمام أمر من الأمور. 

فقد عدَّدت المعاجم العربية المعاني اللغوية الكثيرة للأصل "ختم"، فنصَّتْ على أن المعنى الرئيس لها هو بلوغ آخر شيء، ويُقال: ختمت العمل، وختم القارئُ القرآن الكريم، وختمَ اللهُ له بالخير. ويُقال: ختمت الرسالة أي طبعتها، ومعنى الطبع هنا مهرها وختمها حتى يظهر أثر نقش الخاتم عليها. والطبع على الشيء يُصيّره موثقًا لا يدخله شيء بعد ذلك. ومن أسماء الرسول، صلى الله عليه وسلم، أنه خاتم الأنبياء أي آخرهم. والفعل "ختم" مضارعه "يختم" من باب (ضرب يضرب)، والمصدر منه ختمًا وختامًا. واسم الفاعل منه هو الخاتم (بكسر التاء وفتحها) والفتح أفصح. وقيل إن الخاتم (بفتحها) هو اسم لما يُختم به، وهو حلقة ذات فصّ تُلبَس في الإصبع للختم بها. وفي لسان العرب لابن منظور: خَتَمَه يَخْتِمُه خَتْمًا وخِتامًا؛ طَبَعَه، فهو مَختوم ومُخَتَّمٌ، شُدِّد للمبالغة. والخاتِمُ الفاعِلُ، والخَتْم على القَلْب: أَن لا يَفهَم شيئًا ولا يَخرُج منه شيء كأَنه طبع.

وفي التنزيل العزيز: "خَتَم اللهُ على قلوبهم"؛ هو كقوله: طَبَعَ الله على قلوبهم، فلا تَعْقِلُ ولا تَعِي شيئًا.

قال أبو إسحق: معنى خَتَمَ وطَبَعَ في اللغة واحدٌ، وهو التغطية على الشيء والتأكد من أن لا يَدخله شيء. 

والخَتَمُ والخاتِمُ والخاتَمُ والخاتامُ والخَيْتامُ: من الحَلْي كأَنه أَوّل وَهْلة خُتِمَ به، فدخل بذلك في باب الطابَع، ثم كثر استعماله لذلك، وإِن أُعِدَّ الخاتَمُ لغير الطَّبْع.

ثم جمعوا الخاتم على خواتم وخواتيم. ولأن الرجل الخاتم بالختم بحاجة إلى مادة يختم بها الشيء، قالوا: إن الخِتام (بكسر الخاء) هو الطين أو الشمع الذي يُختم به على الشيء. أمَّا الختْم (بسكون التاء)، فهو أثر نقش الخاتم.

 

our rings

خواتم أمثالنا

يجري مجاز الخاتم في كلامنا اليومي وأمثالنا، وأشهر استخدام له في التندُّر على رجل مطيع لامرأة: "جعلته خاتمًا في إصبعها". وكثيرًا ما يكون هذا، وعد المشعوذين للمرأة التي تسعى إلى السيطرة على رجل. ونادرًا ما يُقال ذلك للرجل، على اعتبار أنه قادر على السيطرة من دون سحر أو شعوذة، ولا بأس فهذا وهم الرجال عن أنفسهم.

وفي المثل الحجازي: "خاتم بفصو وكل شي اترصوا". ويُضرب لناقلي الأخبار، سواء كانوا رجالًا أو نساءً، ويُشار إليهم بالمزعجين والمزعجات.
ويتندر المثل المغربي من الفقير الغافل عن وضعه ولا يعرف كيف يرتب أولوياته: "آش خصك ألعريان؟ قال ليه خاتم أمولاي".

الخاتم في الأغنية

تتحرك الخواتم في التراث الشعبي السعودي واليمني والخليجي بحرية تامة، منها خاتم العتاب والندم:
مثل خاتم صرت أنا في إصبعك
وبس احبك واتبعك

ومنها خاتم التعريف الذي صاحب مرتديه وحفظه في الرحلة الطويلة:
أنا جاي من بعيد يا سادتي من بلادي
وامشي درب طويل والخاتم احمر يماني

ويصف طارش قطن في الكلمات التي يغنيها عبدالمجيد عبدالله، مستوى من جمال الحبيب الذي لا يمكن الوقوف على سره مثل خاتم سليمان:
كيف نوصل لك يا خاتم سليمان
قلنا سرك يا لولو ومرجان
ما خلق مثلك انسي ولا جان
دلنا بالله يا خاتم سليمان

وفي الفلكلور المصري خواتم مختلفة في الشمال والجنوب تُغنى في الأفراح، يصف أحدها جمال الفتاة المُصان بالخاتم في صندوق الصائغ. لكن الحد الأدنى من الخاتم "دبلة الخطوبة" الدائرية بلا فص، صارت الأغنية التي لا تكتمل خطبة من دونها "يا دبلة الخطوبة"، وقد غنتها شادية عام 1953م في فيلم "أنا وحبيبي"، ولم تزل بلحنها المرح وكلماتها التي تحمل معاني المشاركة في رحلة الحب والحياة:
يا دبلة الخطوبة عقبالنا كلنا
ونبني طوبة طوبة في عش حبنا

الأغنية من لحن منير مراد، والكلمات لصحفي ساخر وناقد فني، هو جليل البنداري، الذي كتب بعض قصص الأفلام وأغنياتها، وعاشت له أيقونة "دبلة الخطوبة". 

 

حلية فيروز الأولى

قد تكون السيدة فيروز أبرز من غنّى للخواتم وتغنّى بها. فمنذ العرض الأول لمسرحية "بياع الخواتم" في مهرجان الأرز عام 1964م، استقرت أغنياتها في الوجدان العربي. ويعود النص ومعظم الأغنيات إلى الأخوين رحباني. الخواتم في المسرحية وأغانيها، التي تحمل العنوان نفسه، تُشير إلى الخاتم بوصفه رباطًا. تطلب الصبية من بائع الخواتم أن يحبس لها حبيبها في خاتم: "احبس لي حبيبي بخاتم". وستطلب في أغنية أخرى، وهي «يا حلو شو بخاف»، أن تكون قريبة من القلب قرب خاتمه إليه:
عملني متل خاتم ذهب بإصبعك
تركني حاكيك وأسمعك
خدني على قلبك معك

وفي أغنية أخرى أحدث عهدًا من ذلك، وهي "عبالي لاقيك يا قمر" من كلمات زكي ناصيف، تغني فيروز:
ما بدّي أساور وعقوده
ولا بدّي شالات القصب
ولا بدّي خواتم جديدة
حبيبي الدهب يا دهب

Francesco del cossa
ring John white Alexander

(يمين) لوحة ”رجل يحمل خاتمًا“ (1472م) لفرانشيسكو ديل كوسا. (يسار) لوحة ”الخاتم“ (1912م) لجون وايت ألكسندر.

في اللوحة.. الخاتم محمولًا باليد وليس في الإصبع

عند الحديث عن ظهور الخاتم في فن الرسم، يجب أن تتوجه الأنظار صوب عصر النهضة الأوروبية. 

فبسبب الواقعية الشديدة في مشابهة الأصل، يُتيح ظهور الخواتم عَرَضًا في أصابع الشخصيات المرسومة معرفة مكانة هذه الشخصية أو تلك. وبلغ بعضها من الدقة في التصوير ما يتيح معرفة الطرز وأنواع الجواهر التي تُرصّعها. وينطبق هذا على مئات اللوحات التي رُسمت في القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين. ولكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحدِّ.

ففي لوحة الفنان بيتروس كريستوس الرائعة "صائغ في متجره" (1449م)، نرى في الخلفية علبة خواتم مرصوفة بعناية. غير أن الحضور الأهم للخاتم في لوحات ذلك العصر كان في الخطاب الذي يتضمنه، وهو محمول باليد بين السبابة والإبهام، وليس في الإصبع.

من المرجّح أن الرسَّام الهولندي، يان فان إيك، كان أول من أطلق هذا التقليد في بدايات القرن الخامس عشر. ففي لوحته "رجل بقبعة زرقاء" (1430م)، نرى رجلًا مجهول الهوية يحمل خاتمًا بيده اليسرى. ولا يمكننا أن نجزم بما يعنيه ذلك. فقد يكون واحدًا من أمرين: إمَّا أن الرجل تقلّد منصبًا ما، وإمَّا أنه على علاقة عاطفية أو زوجية. وينطبق الأمر نفسه على لوحة "رجل يحمل خاتمًا" (1472م) للرسَّام الإيطالي فرانشيسكو ديل كوسا.

ولكن خطاب الخاتم المحمول يصبح أكثر وضوحًا عند لورنزو دي كريدي في لوحة "الأرملة" (1490م)، حيث نرى امرأة متشحة بالسواد وتُمسك الخاتم مرفوعًا أمامها علامة وفاء لزوجها الراحل، وهو شقيق الرسَّام.

واستمر هذا التقليد بشكل متقطع حتى العصر الحديث، حيث عاد ليظهر في لوحة حملت اسم "الخاتم" (1912م) للفنان الأمريكي جون وايت ألكسندر؛ إذ نرى امرأة شابة تُمسك بخاتم في يدها، في دلالة على الأنوثة والرقة، وهي التيمة التي تمثّلها هذه اللوحة.

 

الصورة الرئيسة للموضوع من تصوير: هاني قاوز (وحدة التصوير الضوئي بأرامكو السعودية).