
التلفزيون وكرة القدم في أوروبا
يوليو 11, 2025
6 دقائق
نشرت في القافلة عدد (أبريل 1965م) بقلم الأستاذ عقيل هاشم.
لقد أصبح التلفزيون وكرة القدم في أوروبا وحدة متكاملة. فموسم كرة القدم بكل ثقله وحيويته، يربض على الصدور ثمانية أشهر كاملة في كل عام، وطيلة هذه المدة، تعيش الغالبية العظمى من الناس في أحضان التلفزيون وكرة القدم، عيشة رضيع في أحضان أمه. إن عشق الأوروبيين لكرة القدم، أصبح شيئًا يفوق ما يستطيع الإنسان أن يتصوره. وهؤلاء الناس الذين تظنّهم مجبولين من الصقيع أو الجليد، هم في الحقيقة جمرات نار تتأجّج في صمت تحت الرماد. وليس من السهل علينا في طبيعة الحال تصديق أن الأوروبي البارد في مظهره، ملتهبٌ في سريرته، ولكن إذا ما تتبّعت سلوكهم كجماهير في ملاعب الرياضة ووراء أجهزة التلفزيون، أدركت أن هذا الوصف غير مبالغٍ فيه.
ولعل الطقس البارد، وجدية الحياة، والصرامة في النظام البيتي والمكتبي، والخوف من المستقبل الذي نبت في القلوب بفضل الحروب المتتابعة، لعل هذه العوامل كلها هي التي حاكت ذلك القناع الجليدي الذي يغطي الوجه الأوروبي. لكن هذه العوامل نفسها هي التي دفنت جمرات النار في أعماقه، فإذا ما انفعل كان قطعةً من أعصاب متوترة.
وهذا المدخل الذي أحاول التسرّب منه إلى أعماق الإنسان الأوروبي، مدخل ضيق دون شك. إلا أن البحث الذي أسعى إليه ليس دراسة نفسية أو اجتماعية، وإنما هو انطباعات عامة في موضوعٍ يهمنا نحن أيضًا، خاصة وأن التلفزيون آخذ في التسرّب إلى حياتنا بسرعة كبيرة، قد نحتاج معها إلى جهودٍ فائقة لنبقيه أداة ثقافة وأداة تسلية معقولة، لا أداة إثارة تفسد علينا حياتنا وتنقـي إلى أجيالنـا النـاشـئة.

غلاف المقالة كما نشر في عدد (أبريل 1965م). على الرغم من قيام محطات التلفزيون بنقل مباريات كرة القدم من أرض الملعب مباشرة.. إلا أن الكثيرين من عشاق هذه اللعبة لا تفوتهم مشاهدة المباريات عن كثب. ويبدو في الصورة جانب من المدرجات في أحد الملاعب الكبيرة وقد اكتظت بعشرات الألوف من المتفرجين رغم رداءة الطقس وبرودته.
ولا ينطبق هذا فقط على الأوروبيين الجنوبيين من فرنسيين وإيطاليين وإسبان إنه ينطبق أيضًا على الشماليين. وكلما صعدت شمالًا كلما شهدت اندفاعًا أقوى وراء كرة القدم، ففي السويد، أهدأ بلاد العالم، تتحول ملاعب كرة القدم إلى براكين هادرة. وفي اعتقاد السويديين أن اللاعبين في حاجة إلى تشجيع النَّظّارة، وفي سبيل هذا تراهم يتبعون أساليب غريبة في شحن عواطف النظّارة بالحماس. منها استعمال مكبرات الصوت، قبيل بدء المباراة، لتلقين المتفرجين أُسلوبَ الصراخ والزمجرة بصوت واحد، لاستعماله طوال المباراة في تشجيع لاعبيهم.

يبلغ حماس الجمهور عادةً حدًّا يجعلهم يفقدون معه أعصابهم فيتعالى هتافهم وينطلق صياحهم مشجعين الفريق الذي يناصرونه.

حتى النساء هناك تبهرهنّ هذه اللعبة!
ومن عادة محطات التلفزيون المحلية أن تنقل باستمرار مباريات الكرة التي تجري في البلد، كما تُنقل كل مباراة تجري في البلد مع فرقٍ أجنبية. أما شبكة التلفزيون الأوروبية، فهذه تتيح لأي أوروبي يملك تلفزيونًا أن يشاهد أية مباراة أوروبية دولية أينما جرت. كالمبارياتِ الخاصة بكأس أندية أوروبا، أو المباريات بين أندية البطولة، أو مباريات الفرق الأهلية، أو المباريات بين الفرق الأهلية الأجنبية القادمة من القارات الأخرى. على هذا الأساس فإن الأوروبي يستطيع طوال موسم الكرة، ومدته ثمانية أشهر كما أسلفت، أن يشاهد عدة مباريات محلية ودولية كل أسبوع، فيظل مصابًا بعدوى الترقّب والانفعال. فإذا ما حلّت أشهر الصيف المحدودة العدد، بحث عن أقرب شاطئ ليقضي فيه إجازته، وليدفن في رماله وتحت أشعة شمسه كل ذكرياته وانفعالاته.

جرت العادة في المباريات الدولية على عزف النشيد الوطني لكل من الفريقين المتباريين قبيل بدء المباراة .وتبدو في وسط الصورة إحدى الفرق الموسيقية وهي تعزف النشيد، بينما اصطف أعضاء الفريقين أمامها ووقف جمهور المتفرجين في أماكنهم تحية لهم.
في العام قبل الماضي، وقبل أن يتقرّر مصير المباريات قبل النهائية لكأس أندية أوروبا، أي عندما كان انفعال الناس في أوجه، رأينا بطل الفرق الأهلية في العالم، وهو فريق البرازيل، يطل على أوروبا يجري فيها عدة مباريات مع الفرق الأهلية في دوري بطولة العالم للأندية الأهلية. جاء الفريق وعلى رأسه (بيليه) أروع مهاجم في العالم، و(زيتو) و(جارنشيا) و(أمارلدو) و(بيبيه) ليصارع بأسلوب الحبك والسرعة والتكتّل فرقًا تلعب بنظام القوة المكشوفة فيهزمها أو تهزمه. ولسنا بحاجة إلى القول إن الفريق طوال وجوده في أوروبا كان شاغل الناس الأول. وما انتهت مبارياته ورحل عن القارة حتى أخذ الناس يشاهدون مرحلتي ما قبل النهاية والنهاية في مباريات كأس أوروبا بين فرق عملاقة كريال مدريد وبنفيكا البرتغالي ودوكلا التشيكي وانترناشيونال ميلانو الإيطالي. وانتهت هذه لتجري مباريات التصفيه بين الأندية الوطنية الفائزة بالبطولة في أقطارها. هذا كله، والتلفزيون لا يهدأ، فقد كان هناك يقتفي آثار كل مباراة وينقلها للناس أينما كانوا، من مختلف الأقطار الأوروبية.
وما انتهت هذه الدورات جميعًا حتى سلطت الأضواء على ملاعب الكرة في بريطانيا، ليشاهد الأوروبيون مباريات الختام بين أندية بريطانيا. فإن الأوروبي لا ينسى مهما شغلته المباريات المحلية والأوروبية، أن يلقي بنظرة بين الحين والآخر عبر بحر المانش، ليراقب الأحداث على ملاعب كرة القدم في الجزيرة البريطانية. ربما لكون بريطانيا القطر الذي أوجد هذه اللعبة. وربما لكون الأندية البريطانية ذات أسلوب خاص في اللعب تتفرد به، وهو أسلوب التمريرات البعيدة التي لا تخطئ وأسلوب التعاون والرشاقة والدقة المتناهية. وأغلب ظني أن السببين مرتبطان معًا بعواطف جماهير الكرة في أوروبا. فهم إذ يعجبون بأسلوب اللعب في بريطانيا يعرفون أيضًا أن اللعبة قد وجدت أندية لها هناك منذ عام 1863م. وبهذا كانت بريطانيا السباقة في هذا المجال.

اثنان من اللاعبين في احدى مباريات كرة القدم في أوروبا وقد سقطا على الأرض ضحية الخشونة التي تسود أرض الملعب في أغلب الأحيان.
والظاهر، أن هذا الحال هو الدافع الذي يحث المفكرين والنقاد الاجتماعيين، في كثير من الأقطار الأوروبية، إلى المطالبة بين الحين والآخر بأن لا يعمد التلفزيون إلى اكتساب شهرته على حساب عواطف الناس، أو على حساب الإغراق إغراقًا جاهلًا في تسليتهم. وكثيرًا ما تسمع أصواتًا متفرقة هنا وهناك، تدعو إلى الإقلال من نقل مباريات كرة القدم على التلفزيون، وتفعل هذا بالصدق الذي تدعو فيه إلى الإقلال من أفلام الجريمة والإثارة.