Hero image

الكتابة والتعبير عن الذات ولعنة المعرفة

مايو - يونيو 2023

يوليو 21, 2023

شارك

هل‭ ‬استرعى‭ ‬انتباهك‭ ‬وأنت‭ ‬تبحر‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الأدب‭ ‬أن‭ ‬الروائي‭ ‬الأمريكي‭ ‬إرنست‭ ‬همنغواي‭ ‬ذو‭ ‬أسلوب‭ ‬متفرد‭ ‬في‭ ‬الكتابة،‭ ‬فهو‭ ‬يعمد‭ ‬إلى‭ ‬الجمل‭ ‬القصيرة‭ ‬والعبارات‭ ‬المختصرة‭ ‬ولا‭ ‬يعبأ‭ ‬كثيرًا‭ ‬بالمحسنات‭ ‬البديعية‭ ‬التي‭ ‬ميزت‭ ‬أسلوب‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬الأدباء. ‬هذا‭ ‬النهج‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬الذي‭ ‬اختطه‭ ‬همنغواي‭ ‬اصطُلح‭ ‬على‭ ‬نعته‭ ‬بأسلوب “‬الحذف‭ ‬والإلغاء”‬،‭ ‬أو “‬منهج‭ ‬رأس‭ ‬جبل‭ ‬الجليد”‬،‭ ‬حيث‭ ‬يترك‭ ‬الكاتب‭ ‬للقراء‭ ‬مهمة “‬استنباط” ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المعاني‭ ‬الثانوية‭ ‬خلف‭ ‬العبارات‭ ‬الموجزة‭ ‬والقصيرة‭ ‬وما‭ ‬يتولد‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬مشاعر‭ ‬وأحاسيس‭.‬

خير‭ ‬مثال‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬القصة‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬همنغواي‭ ‬بعنوان “‬تلالٌ‭ ‬كفيَلة‭ ‬بيض” Hills as white elephant‬ وهي‭ ‬ذات‭ ‬حبكة‭ ‬قصصية‭ ‬مبسطة‭ ‬تدور‭ ‬حول‭ ‬رجل‭ ‬وامرأة‭ ‬يتجاذبان‭ ‬أطراف‭ ‬الحديث‭ ‬في‭ ‬محطة‭ ‬للقطار‭ ‬في‭ ‬إسبانيا‭ ‬ويدور‭ ‬النقاش‭ ‬بينهما‭ ‬حول “‬عملية‭ ‬ما” ‬تنوي‭ ‬هذه‭ ‬السيدة‭ ‬القيام‭ ‬بها. ‬طبعًا‭ ‬نحن‭ ‬لا‭ ‬نعلم‭ ‬العلاقة‭ ‬التي‭ ‬تربط‭ ‬بينهما،‭ ‬ولا‭ ‬نعلم‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬هذه‭ ‬العملية‭ ‬التي‭ ‬أنيطت‭ ‬بهذه‭ ‬السيدة،‭ ‬فلم‭ ‬يكشف‭ ‬لنا‭ ‬همنغواي‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬مطلقًا. ‬لكن‭ ‬هناك‭ ‬إشارات‭ ‬تنبعث‭ ‬من‭ ‬جوف‭ ‬النص‭ ‬القصصي‭ ‬تُجلي‭ ‬لنا‭ ‬جانبًا‭ ‬نستطيع‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬استنباط‭ ‬بعض‭ ‬الأمور. ‬مثلًا‭ ‬أثناء‭ ‬الحديث‭ ‬تقول‭ ‬السيدة‭ ‬إنها‭ ‬مرعوبة‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬العملية‭ ‬الخطرة،‭ ‬فيما‭ ‬يبدو‭ ‬الرجل‭ ‬منتفعًا‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬العملية،‭ ‬إذ‭ ‬نراه‭ ‬يلحّ‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬السيدة‭ ‬ويحاول‭ ‬التهوين‭ ‬من‭ ‬مشاعر‭ ‬القلق‭ ‬التي‭ ‬انتابتها‭.‬

على‭ ‬النقيض‭ ‬من‭ ‬همنغواي،‭ ‬نرى‭ ‬نابوكوف‭ ‬يولي‭ ‬عنايةً‭ ‬خاصة‭ ‬بالمحسنات‭ ‬اللفظية‭ ‬ويسرف‭ ‬في‭ ‬استخدام‭ ‬اللغة‭ ‬الشاعرية،‭ ‬ويعمد‭ ‬إلى‭ ‬تكثيف‭ ‬الصور‭ ‬البلاغية‭ ‬والتعابير‭ ‬الحسية،‭ ‬ويغرق‭ ‬في‭ ‬الوصف‭ ‬الشديد‭ ‬ويستفيض‭ ‬في‭ ‬ذلك. ‬ليس‭ ‬هذا‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬نلاحظ‭ ‬عناية‭ ‬نابوكوف‭ ‬بالتجريب‭ ‬وذلك‭ ‬بطرق‭ ‬مواضيع‭ ‬غير‭ ‬مطروقة‭ ‬وابتكار‭ ‬أسلوب‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬غير‭ ‬مسبوق،‭ ‬كأن‭ ‬يحاول‭ ‬استنطاق‭ ‬الذاكرة‭ ‬والولوج‭ ‬إلى‭ ‬مفازة‭ ‬العقل‭ ‬والبحث‭ ‬عما‭ ‬بقي‭ ‬من‭ ‬وميض‭ ‬الذكريات‭ ‬والتجارب‭ ‬السابقة‭.‬

ورغم‭ ‬هذا‭ ‬التباين‭ ‬الحاد‭ ‬في‭ ‬أسلوب‭ ‬الكتابة‭ ‬لدى‭ ‬همنغواي‭ ‬ونابوكوف،‭ ‬فإنهما‭ ‬يمثلان‭ ‬حالتين‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية‭ ‬المتميزة. ‬القارئ‭ ‬يشده‭ ‬أسلوب‭ ‬همنغواي‭ ‬المقتضب‭ ‬وعباراته‭ ‬القصيرة،‭ ‬ويُعجب‭ ‬أيضًا‭ ‬بأسلوب‭ ‬نابوكوف‭ ‬المتفرد‭ ‬بصوره‭ ‬المجازية‭ ‬وعنايته‭ ‬بالتفاصيل‭ ‬وسبره‭ ‬لأغوار‭ ‬النفس‭ ‬البشرية‭.‬

صعوبة‭ ‬الكتابة‭ ‬المتخصصة

هذا‭ ‬بخصوص‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية،‭ ‬ولكن‭ ‬لماذا‭ ‬تبدو‭ ‬الكتابة‭ ‬المتخصصة‭ ‬صعبة‭ ‬المراس؟‭ ‬لماذا‭ ‬يستعصي‭ ‬على‭ ‬الطبيب‭ ‬أحيانًا‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬أمر‭ ‬ما‭ ‬كتابةً؟‭ ‬ولماذا‭ ‬يجد‭ ‬المهندس‭ ‬عنتًا‭ ‬في‭ ‬وصف‭ ‬شيء‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬صميم‭ ‬تخصصه؟‭ ‬شكّلت‭ ‬هذه‭ ‬الأسئلة‭ ‬جوهر‭ ‬كتاب‭ ‬العالم‭ ‬اللساني‭ ‬الشهير‭ ‬ستيفن‭ ‬بنكر‭ ‬الذي‭ ‬عنونه‭ ‬بـ “‬المعنى‭ ‬والأسلوب”‬،‭ ‬وتناول‭ ‬فيه‭ ‬فكرة “‬الكتابة‭ ‬الغامضة” ‬و‭”‬الكتابة‭ ‬المبهمة” ‬والمقارنة‭ ‬بين‭ ‬من‭ ‬يحسن‭ ‬الكتابة‭ ‬والتعبير‭ ‬عن‭ ‬الأفكار‭ ‬ومن‭ ‬تستعصي‭ ‬عليه‭.‬

وفي‭ ‬فصل‭ ‬من‭ ‬فصول‭ ‬الكتاب،‭ ‬يتوقف‭ ‬بنكر‭ ‬عند‭ ‬مفارقة‭ ‬لافتة‭ ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬البارزين‭ ‬في‭ ‬ميادين‭ ‬العلم‭ ‬والمعرفة‭ ‬والمنظرين‭ ‬الكبار‭ ‬في‭ ‬العلوم‭ ‬والمعارف‭ ‬لا‭ ‬يحسنون‭ ‬التعبير‭ ‬عما‭ ‬يحوزون‭ ‬من‭ ‬المعرفة. ‬ويرسم‭ ‬لنا‭ ‬بنكر‭ ‬بعد‭ ‬ذلك ‭”‬نظرية‭ ‬تفسيرية” ‬لهذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬أسماها “‬لعنة‭ ‬المعرفة”‬،‭ ‬وهي‭ ‬توصيف‭ ‬لحالة‭ ‬يصل‭ ‬إليها‭ ‬من‭ ‬حاز‭ ‬علمًا‭ ‬وافرًا‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬من‭ ‬ميادين‭ ‬العلم‭ ‬والمعرفة‭ ‬وتشبع‭ ‬به. ‬وخير‭ ‬مثال‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬المحامي‭ ‬البارع‭ ‬الذي‭ ‬عُرضت‭ ‬عليه‭ ‬قضية‭ ‬ما‭ ‬فتراه‭ ‬يتحدث (‬أو‭ ‬يكتب) ‬بلسان‭ ‬العارف‭ ‬الخبير‭ ‬مستخدمًا‭ ‬عبارات‭ ‬ومفاهيم‭ ‬لا‭ ‬يُحسن‭ ‬العوام‭ ‬فهمها‭ ‬وإدراكها. ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظره،‭ ‬فإن‭ ‬تلك‭ ‬معارف‭ ‬عامة‭ ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬الخطاب‭ ‬التداولي‭ ‬الجمعي‭ ‬لأفراد‭ ‬المجتمع. ‬ولعل‭ ‬نظرية “‬الأجناس” (‬genre theory) ‬فَطِنت‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الأمر،‭ ‬فعدّت “‬المتلقي” ‬جزءًا‭ ‬مهمًا‭ ‬من‭ ‬منظومة‭ ‬التواصل‭ ‬والاتصال‭ ‬الناجح؛‭ ‬فأنت‭ ‬لا‭ ‬تنشئ‭ ‬خطابًا‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬وعي‭ ‬بماهية‭ ‬المتلقي،‭ ‬وإغفال‭ ‬ذلك‭ ‬قد‭ ‬يودي‭ ‬إلى‭ ‬فشل‭ ‬التخاطب‭ ‬وسوء‭ ‬فهم‭ ‬للرسالة‭.‬

الأمر‭ ‬الآخر‭ ‬الذي‭ ‬يخفف‭ ‬من‭ ‬غلواء “‬لعنة‭ ‬المعرفة” ‬أن‭ ‬يتخفف‭ ‬الكاتب‭ ‬قليلًا‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬التعابير‭ ‬الاصطلاحية‭ ‬والعبارات‭ ‬الدقيقة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يحسنها‭ ‬سوى‭ ‬المتخصص،‭ ‬واستبدالها‭ ‬إما‭ ‬بعبارات‭ ‬دارجة‭ ‬أو‭ ‬بشرح‭ ‬مبسط. ‬ويعطينا‭ ‬بنكر‭ ‬مثلًا‭ ‬كاشفًا‭ ‬لجملة‭ ‬راعى‭ ‬فيها‭ ‬مُنشئها‭ ‬الالتزام‭ ‬بأهداب‭ ‬اللغة‭ ‬المتخصصة (‬الجملة‭ ‬الأولى)‬،‭ ‬وأخرى‭ ‬سهلة‭ ‬لا‭ ‬تفسد‭ ‬المعنى (‬الجملة‭ ‬الثانية):‬

  • ‭”‬عُقد‭ ‬اختبار‭ ‬لجميع‭ ‬المشاركين‭ ‬في‭ ‬ظروف‭ ‬من‭ ‬العزل‭ ‬الصوتي‭ ‬تتراوح‭ ‬من‭ ‬جيدة‭ ‬إلى‭ ‬ممتازة‭”.‬
  • ‬‭”‬أجرينا‭ ‬اختبارًا‭ ‬للطلاب‭ ‬في‭ ‬حجرة‭ ‬هادئة‭”.‬

وفي‭ ‬الختام،‭ ‬فإن‭ ‬الكتابة‭ ‬المتخصصة‭ ‬اليوم‭ ‬تحت‭ ‬المجهر،‭ ‬والنزعة‭ ‬إلى‭ ‬تبسيطها‭ ‬للقارئ‭ ‬العادي‭ ‬تتصاعد،‭ ‬وما‭ ‬تلك‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬نقرؤها‭ ‬اليوم‭ ‬وتحمل‭ ‬عناوين‭ ‬من‭ ‬قبيل “‬مقدمة‭ ‬مبسطة” ‬أو “‬عرض‭ ‬ميسّر” ‬إلا‭ ‬خير‭ ‬مثال‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬النزعة‭ ‬التي‭ ‬طال‭ ‬انتظارها‭. ‬

د. ‬عبدالله‭ ‬بن‭ ‬علي‭ ‬الأسمريأستاذ‭ ‬جامعي‭ ‬سعودي