Hero image

لنسخرْ قليلًا أو كثيرًا من هشاشة العالم!

يوليو - أغسطس | 2025

يونيو 28, 2025

4 دقائق

شارك

كتبتُ في "x" (تويتر سابقًا): "كلهم فرحوا للأعمى حين استعاد بصرَه، إلا عصاه؟!".

ردَّ أحدهم: "يبدو أنه هجر عصاه لأنه اكتفى عنها بالنظر، عن مآربه الأخرى". وقد صدق. يترك الإنسانُ الناسَ والأشياءَ من حوله حين ينتهي من الحاجة إليهم وإليها، هو ليس جاحدًا ولا جانيًا، هو فقط يمارس ما ستمارسه الحياة عليه. 

كتبتُ تغريدتي بعد أن قرأت "هشاشة العالم" لجوان كارلوس ملك. كتاب جميل، يتقاطع مع موقفي الفلسفي الحالي. أنا أنتمي فلسفيًا إلى التفكيك؛ والتفكيك ببساطة إدراك أن العلاقة بين الكلمات والأشياء وهمٌ بشري وحلم زائف ندعوه اللغة. أعجبني الكتاب، وجذبني عنوانه الفرعي "الكتابة في زمن لا استقرار فيه". 

فصله الأول شدني، ووجدتني غارقًا في بحر من الرموز اللغوية. ها هي اللغة تحتال عليَّ مرة أخرى، وأنا إنسان، لا مفرَّ لديَّ من أن أحتال ويُحتال عليَّ؛ أصنع الوجود، الوجود كله، في اللغة، وأعيش على هذا الوهم الكبير حتى أموت. حين أموت لا أدري إن كان هناك وجود أم لا؛ لأني أصبحت خارجه، خارج اللغة. الموت يا أصدقائي ليس إلا حيلة لغوية بالمناسبة، حيلةً تُحيل على اللاشيء. واللاشيء لا معنى له. هو كذلك بلا معنى؛ لأنه لا شيء. ولأن اللاشيء لا يريح الإنسان، ولا يشبع فضوله، ولا يُغري كبرياءه، كان لا بدَّ من أن يخترع له وجودًا في اللغة، أوجده، ودعاه الموت. حمزة شحاتة، شاعرنا الفيلسوف الذي دفناه عمرًا كاملًا، ثم حاولنا بعثه مشوَّهًا على طريقتنا، يقول: 
ماذا يريبك من مآلك؟ أفغيرَ أن الليلَ حالك؟

هذا المجهول الحالك هو، على ما يبدو، اللاشيء الذي نخاف منه. يعطي شحاتة في النصف الثاني من القصيدة إجابته الشخصية عن سؤاله. وهي إجابة مرعبة، لها علاقة بكل شيء هنا؛ بالحقيقة وبالمعنى وباللغة. 
أضحكتني عبارة وردت في نهاية الفصل الأول من "هشاشة العالم"، تقول: "نحن بحاجة إلى عقل يجرؤ على التحرر من الميتافيزيقا، عقل متنبه للزمن، ولمادية الأجساد، وصيرورة التاريخ". عبارة عميقة، أتفق مع المؤلف، لكني مضطر إلى أن أعترض بنبرة لا تخلو من سخرية: يبدو الهروب من الميتافيزيقا وهمًا آخر، يحاوله المؤلف، ونحاول، نحن التفكيكيين، ترسيخه واعتماده منهج تفكير، وطريقة حياة. أضحك على المؤلف، وعلى نفسي؛ لأن العقل ميتافيزيقي، واللغة ميتافيزيقا (اللغة بوصفها نظامَ رموز تُحيل على معنى)، المعنى ميتافيزيقي، والوجود.. الوجود كذلك. هايدغر حرَّرها بهذه الطريقة، حين قال: "الميتافيزيقا عنوان للمشكلة الأساسية للميتافيزيقا". يقول هذا في كتابه "المفاهيم الأساسية" الذي يفترض به أن يضع، ضمن ما يضع، إجابة لسؤال: ما العالم؟ "العالم هو تجلي الكائن من حيث هو كذلك في كليته". لا أعتقد أن هذا التعريف يساعد. قراءة الكتاب كاملًا قد تساعد.. تساعد على أن ندرك أن العالم هش، ويزداد هشاشة. 

"يعني الوجود أن تكون كائنًا في العالم، تسكن في العالم، لكنه سكن هش" يقول ملك. ويضيف: "نحن الآن نعيش في عصر غني بالمعرفة، وفقير في الحكمة". عبارة جميلة تلخص القلق الذي يعتري الوعي البشري. لسنا متأكدين إلى أين نتجه، ولا مهرب من هذا. ما نستطيع فعله أن نصنع معنى ما لوجودنا؛ ففي الدنيا اخترنا الأخلاق والرفاهة، وجعلنا الفن نموذجًا لهذا وذاك. بالأخلاق والرفاهة استطعنا أن نرى كيف يكون للوجود معنى، وكيف أننا لم نوجد عبثًا، وكيف يمكن لنا أن نرى نورًا في نهاية النفق. لا بأس.. قد يكون هذا النور صنيعةً لغوية ليس إلا، أو لوحةً في جدار وعينا الواهم، أو وهمنا الواعي (هل هناك فرق؟!). "يمكننا دائمًا أن نبحث عن السر"، يؤكد دريدا ساخرًا "نجعله ينطق، ونتصوره موجودًا وغير موجود. يمكننا أن نكذب، أن نخدع، أن نضلل بواسطته..". تفكرون في نيتشه أيضًا، لن ألومكم. شيطانه معي.. يراقب ما أكتب.

المشكلة دومًا أن الإنسان يؤمن أنه محور الكون، ويتصرَّف على هذا الأساس؛ تعميه نواقصه، ويعميه حبه للسيطرة، ونهمه في التملُّك. يبطش، ويتحيز، ويمارس العنف ضد أخيه الإنسان وضد الطبيعة. الكتاب، كتاب جوان كارلوس ملك، يرضيني قليلًا باقتراح حل معقول: "هناك حاجة ماسة إلى عقل يحترم هشاشته، إنها الحاجة إلى عقل عاجز". يستحق مفهوم (العقل العاجز) مقالة خاصة به، لشرحه، لتفكيكه، لإثبات إمكانيته أو عدمها. أميل للخيار الثاني، لكن حمزة شحاتة يمنعني.. يعيدني لقصيدته، لختامها بالذات: 
قل للذي نشد الحقيقةَ   كادحًا ما في حبالكْ؟
سرُّ الحقيقة ما جهلتَ فلا تُرَعْ.. حالي كحالكْ
لو آثر الناس الضلال لكان رشدُكَ في ضلالكْ


العالم مليء بالأشياء التي لا نفهمها، ولا يبدو أننا سنفعل في القريب العاجل. أول الأشياء وأعوضها هو الوجود. (لماذا وُجد الموجود؟) هذا ما يشغل هايدغر في مدخله إلى الميتافيزيقا، وهذا ما يقلق الإنسان، ويقض مضجعه: لماذا يُمنح أهمَّ وأجملَ النعم؛ أعني الحياة، ولماذا تُسلب منه؟! لست متأكدًا من الإجابة، أشك في إمكانية وجود إجابة. يحاول كتاب "هشاشة العالم" توفير إجابة كما قلت. الكتاب جميل. ليس جميلًا، بل هو كتاب رائع. يحاول أن يرفع الوعي بالوجود، لكن المشكلة في (زيادة الوعي) بالذات. هذا ما يقترحه الفيلسوف الإسباني، يحاول رفع الوعي ليصل إلى لحظة إدراك وسلام بعجز العقل. هو يعلم جيدًا أنها معادلة صعبة، ومستحيلة. كلَّما ازداد الوعي انخفض منسوب السلام. كيف وصل المتنبي إلى هذه النتيجة قبل ألف عام: "ذو العقل يشقى..."؟ قاتله الله، ما أحكمه! أبدو الآن في حالٍ تشبه حال الأعمى، أو بالأحرى، تشبه عصاه؛ تلك التي هجرها بعد أن استعاد بصره.