
يحضر أبو عثمان الجاحظ، "هذا المؤلف ملتقى الروافد"، كما وصفه الدكتور عبدالفتاح كيليطو، حضورًا لافتًا في كتابه "في جو من الندم الفكري". كتب كيليطو عن المستعرب الفرنسي شارل بيلا، الذي قضى عمره في العناية بأدب الجاحظ، لكن اسمه بوصفه مترجمًا لكتاب البخلاء سقط سهوًا من الغلاف، وهو "سهو فظيع ومضحك في آنٍ"، وصار القرَّاء العابرون يسألون كيليطو عن الجاحظ الذي ألَّف "البخلاء" بالفرنسية، بحسب اعتقادهم. هكذا انخرط أبو عثمان في زمرة الكتاب الفرانكفونيين، وتصوَّره صاحب "حصان نيتشه" يضع نظارة شمسية تخفي جحوظ عينيه، ويرتدي لباسًا أوروبيًا أنيقًا من بذلة ورباط عنق وحذاء لامع.
أكتب هنا، ليس لمجرد التعقيب على ملف عبود عطية حول "الكاتب"، المنشور في العدد ذي الرقم 710 من مجلة القافلة (مايو - يونيو 2025م)، وإنما أعدُّ ما أكتبه هنا فرصة لنتذكر أشهر كاتب عربي نذر حياته للكتابة، عاش لأجل الكتب ومات بالكتب. إنه الجاحظ الذي مات مخنوقًا بالكتب التي انهارت عليه، فتفوَّقت ميتته على سخريته اللاذعة في كتاباته!
إذا كانت شهرزاد في "الليالي" تتملص من عهدة الحكايات، وتنسبها إلى "مؤلف" غير مسمَّى وجماعي، متخفية خلف عبارة "بلغني أن"، تنقل حكايات سبق أن رُويت ويعود أصلها إلى ماضٍ غير محدد، وهو ما يعني أن مصدر الكلام غير معين في الحكايات الشعبية، كما أشار إلى ذلك الدكتور كيليطو؛ فإنه يلاحظ في قراءته لكتاب "البيان والتبيين" للجاحظ أن المؤلف "كيفما كان شكل تأليفه، محل ريبة صريحة أو غامضة، ولهذا قيل: لا يزال المرء في فسحة من أمره ما لم يقرأ شعرًا أو يؤلف كتابًا. ذلك أن الخطر ماثل والعدو بالمرصاد"، بَيْد أن الفرق بين الكتابة والحكاية يلخصه جاك دريدا بقوله: "الكتابة مرتبطة بالتأجيل، بالإرجاء، بالغياب، على عكس القول الذي يستلزم القرب والحضور والمواجهة".
في "الكتابة والتناسخ.. مفهوم المؤلف في الثقافة العربية" يتطرق كيليطو إلى ظاهرة غريبة في التأليف،إذ نشر كتابًا تعرّض للطعن في مرحلة أولى، ثم للسرقة في مرحلة ثانية. ولتفادي هذا الجور، لجأ إلى نسبته لمؤلفٍ قديم. هكذا يتقي الجاحظ شر الحساد بلجوئه إلى النسبة المزيفة، لكن متعته المستترة تجلب له المرارة بدل الرضا؛ إذ لا ينال بوصفه راوية لكتاب من تأليفه إلا جزءًا ضئيلًا من المجد الذي حظي به غيره! هكذا يلجأ إلى النَّيل من ذلك الميت الذي يستمر في البقاء بفضل ما يمصه من دم الأحياء.. خياران لا ثالث لهما: أن يستسلم المؤلف لنقمة الأحياء أو شراهة الأموات، والأمر لا يُطاق في الحالتين. ويرى عبدالفتاح كيليطو أن أسهل حل أن يركن الكاتب إلى الصمت والتوقف عن الكتابة، لكن الكتابة بالنسبة إلى الجاحظ هي ما يدر عليه سبل العيش، فاهتدى إلى نشر الكتاب دون أن ينسبه إلى مؤلف معين، بل ينسبه إلى مؤلف مجهول الاسم، ويحظى بسطوة الماضي، وتسهل عملية التبني للكتاب، فـ"هناك احتمال كبير لتبني ابن ضائع أكثر من تبني ابن يحمل اسم أب آخر".
إذا كانت الكتب سبب موت الجاحظ، فإنها في حالة ابن رشد "موعظة وتذكرة"، كما كتب ابن عربي في فتوحاته المكية، وهو يخلِّد مشهد ترحيل جثمان ابن رشد من مراكش إلى قرطبة، إذ وضع على أحد جانبي الدابة جثمانه، وفي الجهة الأخرى مخطوطاته، التي ستواصل السفر عبر لغات أخرى.
في مقاله "الكاتب في إجازة"، ضمن كتابه "أسطوريات.. أساطير الحياة اليومية"، يكتب رولان بارت: "إن ما يبرهن على التفرُّد الرائع للكاتب، هو أنه خلال العطلة، التي يتقاسمها بشكل أخوي مع العمال وموظفي المتاجر، لا يكف عن العمل أو عن الإنتاج، إذًا هو عامل مزيف، ومن ثمَّ، هو لا يقضي إجازة حقيقية؛ فهناك من يدون مذكراته، وآخر يصحح أوراق امتحان، وثالث يعدُّ لإصدار كتابه القادم. ومن لا يفعل شيئًا يعترف أن في سلوكه هذا تناقضًا حقيقيًا، وإنجازًا طليعيًا لا يفصح عنه سوى فكر محدود. عند هذا التبجح الأخير، ندرك أن من "الطبيعي" ألا يكف الكاتب عن الكتابة في مختلف الحالات.
في الوطن العربي، الأعمال السينمائية أو الدرامية التي جعلت حملة الأقلام أبطالًا نادرة تقريبًا. لكن من الأدب سيستعير التلفزيون صورة الكاتب في شبابه، على يدي كاتبين بدآ مشوارهما الفني بكتابة القصة القصيرة، في مسلسلي "طيور الصيف" و"أبواب المدينة" لأسامة أنور عكاشة، ومسلسل "سفر الأحلام" لوحيد حامد، وفيلم "أنا وأنت وساعات السفر"، الذي رسم فيه صاحب "طيور الظلام"، وبكثير من الشجن، صورة الكاتب في مجتمع استهلاكي، حين يختار الأديب عزت هلال (يحيى الفخراني) في لحظة سأم مغادرة المكتب متوجهًا إلى بيته، ثم يستقلُّ قطارًا دون أن يعرف وجهته، وبلا تذكرة، حيث سيقابل حبه القديم سلوى (نيلي)، التي تخلّت عنه لكي تتزوج رجلًا ثريًا.
الصورة الرئيسة للمقالة: رسمٌ تخيُّليّ للجاحظ.