
أسوان هي آخر مدينة في جنوب مصر وبوابتها إلى إفريقيا. لها في مُخيّلة معظم عشاق السفر صورة المدينة الغنية بآثارها الفرعونية الباذخة في جمالها. فهي بعد القاهرة والأقصُر تمثِّل مركز الثقل الثالث في حضارة مصر القديمة. إنها المدينة النيلية التي ربَّما يكون هذا النهر العظيم في أصفى حالاته فيها، بعد أن يكون قد هدأ عن صخب المنابع وتخلَّص من ثقل الطمي ولونه، وقبل أن يمرَّ بمدن أخرى تضيف إليه أعباء تلوث السفن النهرية والمطاعم الشاطئية.

الجِِمال تتمتع بصفاء ووفرة ماء النيل بعد رحلة أربعين يومًًا في الصحراء.
آثار أسوان ذات المعجزتين
كثير من آثار الفراعنة تبدو معجزة، لكن آثار أسوان تنفرد بأنها ذات معجزتين: معجزة الإنشاء الأول، ومعجزة نقل المعابد من أماكنها عند إنشاء السد العالي إلى أماكن أبعد قليلًا وأعلى من أماكنها التي غمرتها مياه البحيرة الاصطناعية الناشئة عن بناء السد. وقد شاركت منظمة اليونسكو في معجزة النقل الحديثة بنجاحٍ، حتى إن نقل معبد أبي سمبل لم يُغيِّر موعد تعامد الشمس على وجه الملك رمسيس الثاني في كلِّ عام. فهذا المعبد للفرعون ولزوجه الملكة نفرتاري بُني في القرن الثالث عشر قبل الميلاد لتخليد ذكرى النصر في معركة قادش، وهو منحوت في الجبل، مما شكّل صعوبة كبيرة في عملية النقل التي صارت في جوهرها نقلًا لجبل بقصِّ المعبد إلى شرائح أُعيد تركيبها في مكانها الجديد. كما نُقل معبد إيزيس، وهو بناء حجري بالغ الرقة، من موقعه الأصلي في جزيرة فيلة إلى جزيرة أجيلكيا التي تبعد عنها 500 متر. هذا المعبد هو آخر ما شُيِّد على الطراز الفرعوني الكلاسيكي عام 690 قبل الميلاد. وتُعدُّ زيارته بالقوارب على صفحة النيل الصافي تجربةً لا تُنسى.


في سوق الإبل يتلاقى الجنوبي مع الشمالي، والبدوي مع الفلاح من مصر والسودان.
أبو سمبل وسوق دراو للإبل
تُعدُّ آثار أبي سمبل وفيلة وغيرها من المعابد الصغيرة، والسد العالي، وحديقة النباتات الجميلة، وِجهات أساس في رحلات السائحين القادمين من الشمال. ولا توجد طريقة واحدة لقطع ألف كيلومتر بين القاهرة وأسوان؛ فهناك القطار، والطائرة، وهناك تجربة السفن النيلية التي تتحرك بين الأقصر وأسوان، فتمكّن الزائر من أن يستقلّ القطار أو الطائرة إلى الأقصر، وبعد زيارتها يستأنف الرحلة في الفنادق العائمة إلى أسوان، أو العكس. وتُتيح هذه الرحلة رؤية الشروق والغروب على صفحة النيل والتوقُّف في "دندرة" لرؤية معبد يختلف عن كل المعابد الفرعونية.
لكن حركة زائري أسوان من الشمال إلى الجنوب تقابلها حركة أخرى في الاتجاه المعاكس: حركة مياه النيل، شريان حياة مصر. ويُعدُّ الكركديه، المشروب اللذيذ ذو الفوائد الصحية، والحنّاء، أبرز محصولين تتميز بهما أسوان عن كل المناطق الزراعية. وكذلك حركة الإبل الخارجة من سوق "دراو" بأسوان لتنتشر في مصر وتصل إلى مدى أبعد ممَّا تصله مياه النيل. يُقبل البدو على الإبل في شرق مصر وغربها، والفلاحون في المحافظات الزراعية، إضافة إلى أنها أحد مصادر اللحوم في مصر.
ليس هناك تاريخ محدَّد لبداية هذه السوق. هناك صور فوتوغرافية لحركة البيع والشراء فيها تعود إلى عام 1957م. لكن الراجح أن عمرها يمتد إلى مئات السنين. تصل الإبل من السودان عبر خطين للتجارة: أحدهما شرقي النيل، والآخر غربه، ويلتقيان في أسوان. وهي ليست سودانية فحسب، بل فيها ما يرد إلى السودان من دول إفريقية أخرى مثل أثيوبيا وإريتريا. ومعظم القوافل تأتي من ولايات دارفور وكردفان، في رحلة برّية تستغرق أربعين يومًا، وهذا هو أصل تسمية "درب الأربعين"، وهي الدرب الأجود بفضل مراعيه.
بعد أن تجتاز الإبل الحجر الصحي يتوجّه بها التجَّار السودانيون إلى السوق الضخمة التي تُعقد طوال أيام الأسبوع، وإن كانت أيامها الرئيسة هي السبت والأحد والثلاثاء. ويجتمع في السوق نحو ألفي جمل مع التجَّار والمشترين من المصريين والسودانيين من مختلف الأقاليم، في مشهد يُجسّد تقاطع الثقافات في العادات والملابس واللهجات. وهذا ما يجعل السوق أكثر من مجرد مكان للتجارة، بل هي جزء من حركة اقتصادية وبشرية وثقافية عابرة للحدود، في منطقة صحراوية تمدُّ يدها للنيل، في توازنٍ فريدٍ بين القسوة والخِصب. كبار التجَّار يجلسون على مقاعد خشبية عالية، في حين يجلس الجيل الأصغر على الأرض، في مشهدٍ يعكس تقديرهم واحترامهم لكبار السن.
التنوُّع البشري نفسه يلمسه الزائر في شوارع مدينة أسوان وأسواقها. الناس من مختلف المشارب يتفاعلون بودٍ وألفة، مكونين نسيجًا اجتماعيًّا متجانسًا. في أركان السوق، تختلط رائحة التوابل العطرة برائحة القهوة الطازجة، وتُغريك ألوان الأقمشة الزاهية، فيما تلمع الحُلي الفضية في أيدي الباعة. في هذه السوق، تجد المسلم بجانب المسيحي، والتاجر المحلي بجانب الزائر الأجنبي، وجميعهم يتشاركون مساحةً واحدةً بسلام. هذه الألفة التي يلمسها الزائر في أسوان ليست شيئًا عابرًا، بل هي نتاج تاريخ طويل من التعايش بين مختلف المجموعات البشرية التي سكنت هذه الأرض.

من أسواق أسوان الشعبية
“
كانت في المركز الثالث في الحضارة الفرعونية، وهي اليوم مدينة تُحكَى ولا تُوصَف لجمال آثارها وجزرها، وأهم من ذلك طيبة أهلها
لم يزُر أسوان من لا يُبحر إلى جزر النيل الصغيرة؛ إذ يستقبله أهلها بوجوههم السمراء المبتسمة وروحهم الودودة. "مجتمع النوبة" له هويته الخاصة، ولغته الفريدة التي تتآكل تدريجيًّا مع الزمن، لكنها لا تزال جزءًا لا يتجزأ من حياتهم اليومية. يُمارس النوبيون الزراعة والصيد، وكما أن فِراء دُبٍّ على الجدار يشير إلى جسارة صاحب البيت في ريف أوروبا وجبالها، يُشير جلد التمساح في بيوت النوبة إلى قربهم من التماسيح المُهابة التي تعيش على شاطئ النيل وبحيرة ناصر.

النيل أهم مفردة في حياة أسوان وضيوفها.

أسوان.. المدينة النيلية التي ربَّما يكون هذا النهر العظيم في أصفى حالاته فيها

الأناقة البسيطة لجدران ونوافذ بيوت النوبة، والألوان تحاكي زرقة النيل وصفرة الصحراء وشمس الشروق والغروب.

الكرم والبركة في بساطة تُُعاش مرة لتبقى في القلوب على الدوام.
وفي كل الفصول والمواسم، أسوان تدعو زائريها إلى معايشة تفاصيلها، كي يُدرك الزائر أنها مدينة تُحكَى لا تُوصف، ومكانٌ يروي قصصًا حيَّةً عن التنوُّع البشري، وكرم الضيافة، والتعايش السلمي. إنها مدينة تذكِّرنا بأن الجمال الحقيقي لا يكمن في الآثار القديمة فقط، بل في روح أهلها، وفي القصص التي يحملونها في قلوبهم.
نص وتصوير: نسيم العبدالجبار