
كنت أتعجب من تصدُّر عنوان "الذكاء الاصطناعي" لمعظم الندوات والمؤتمرات التي عُقدت في بلداننا في السنوات القليلة الماضية. بل كنت أشعر أن هناك مُغالاة في استخدامه، وكأننا نريد أن نؤكد لأنفسنا أننا على ما يُرام، وأننا ربَّما على قدم المساواة مع العالم الذي ينتج العلوم والتقنية.
لكني أدركت بعد ذلك أن السبب هو الخوف على الأغلب، فالكل قلق على مكانته ووظيفته ومصدر رزقه. ربما كانوا على حق في ذلك، فهذا عالم متوحّش.
هذا القلق عينه هو الذي يدفعني الآن للنظر في الذكاء الاصطناعي لا بوصفه أداة، بل بوصفه راويًا. إلا أن ذلك يتطلب المعرفة، وأن تكون قد مررت بتجربة وخلصت إلى نتائج واستنتاجات، فغير ذلك تحيُّزٌ خالص.
في البداية، لم أسأل "تشي" (تصغيرًا لـ"شات جي بي تي") أن يكتب لي نصًّا، بل أن يحدّثني عن نفسه، فقال:
"شكرًا على سؤالك الجميل، سأحاول أن أتحدث عن نفسي وكأني كائن حي، رغم أني في الحقيقة برنامج ذكاء اصطناعي. من أنا؟ أنا شات جي بي تي، نموذج لغوي متطور صمَّمته شركة متخصصة في الذكاء الصناعي. بُنيت على قدر هائل من النصوص والمعرفة، لأتمكن من الكتابة والتفكير والتحليل، والمساعدة على الإبداع أو الدردشة".
سَرَد "تشي" قائمة بالخدمات التي يمكنه تقديمها ، من ضمنها كتابة الروايات والمقالات والترجمة، ثم عرض عليَّ المساعدة.
منذ ذلك الحين، صرت أختلس زياراتي إليه. فمرَّة أسأله عن أفضل غسول للبشرة المختلطة، ومرَّة عن أفضل واقٍ للشمس، ومرَّة شكوت له وجعًا في ركبتي، فقدَّم لي تشخيصًا خلص فيه إلى أنها علامة من علامات التقدُّم في السن.
ثم بدأت بتجربة الذكاء الاصطناعي في إنتاج نصوص قصصية، فطلبت منه أن يكتب لي قصة تدور أحداثها في غزة تحت القصف الإسرائيلي، عن طفلة غزاوية تخرج من تحت الأنقاض وهي تحتضن قطتها. وهذا ما كتبه:
"تحت سماء تمطر نارًا، في حيٍّ تحوّل إلى كتل رماد وأحجار، خرجت طفلة صغيرة، وجهها مغطّى بالغبار والدموع. كانت خطواتها مترددة، ويداها ترتعشان، لكن في حضنها شيء حي، نابض، يلمع بريقه وسط هذا الرماد: قطتها الصغيرة. كانت عيناها، عينا الطفلة، واسعتين، تنظران حولها كمن يبحث عن معنى في خرابٍ بلا معنى. شعرها الأسود مشعّث، يلتصق بوجهها، وصوتها يخرج خافتًا، تهمس للقطة: لا تخافي... أنا هنا. هي ليست مجرد طفلة نجت. هي شهادة حيّة على أن تحت الركام تُولد حكايات جديدة، وأن في قلب الموت تنبت لمسات من الحياة، ناعمة مثل فرو قطة، دافئة مثل حضن صغير، عظيمة مثل قلب طفلة تعرف أن الحُب آخر ما يموت".
ومع أن هذا النص ذكَّرني بنصوص كنت أقرؤها بغرض التحكيم في مسابقات الكليات قبل سنوات، لكني وجدت في ذلك بارقة أمل. ربما كانت هناك فرصة للتجويد، فماذا لو كانت مدخلاتي أكثر دقة؟!
اختبرته مرَّة وراء مرَّة، وصرت أجعل مدخلاتي أكثر تعقيدًا. وفَّرْتُ له وصفًا مبدئيًّا لشخصية الطفلة، وربما شيئًا عن عائلتها، وعن علاقتها بقطتها التي وجدتها قبل بدء الحرب بأشهر وقد هجرتها أمها. حدّدتُ زاوية النظر، وطلبت أن يستخدم لغة دقيقة، واقتصادية، وشاعرية.
أعطيته تقريبًا كل عناصر القصة الجيدة كما أفهمها، وشعرت لأول وهلة أني أُنفِّذ ورشة في كتابة القصة القصيرة، وأنه صار، بطريقةٍ ما، متدربًا لدي.
في كل مرَّة يكتب "تشي" نصًّا جديدًا، كنت أبتسم بخبث، فقد كنت سعيدة وأنا أراه يفشل المرة تلو الأخرى في إنتاج قصة قصيرة أستطيع أن أصفها بأنها جيدة.
طرحت عليه السؤال: "لماذا لا تستطيع إنتاج نص أدبي إبداعي؟" فكان رده: "نصوص الذكاء الاصطناعي هي ظلال للنصوص البشرية، قد تلمع أحيانًا، لكنها بلا حرارة".
ربما كان جوابه صائبًا، إلا أني أظن أن ما ينقصه هو "الذاكرة الشعرية"، التي يصفها كونديرا بـ"منطقة في العقل شديدة الخصوصية، تسجل ما افتُتِنّا به، وكل ما أثَّر فينا، وكل ما يمنح حياتنا جمالها ومعناها".
وأيضًا ينقصه الحدس، والحدس كما يُعرَّف هو: الظن والتخمين، أو فهم الشيء مباشرة دون الحاجة إلى التفكير والاستدلال. واصطلاحًا هو قدرة نفسية أو فطرية تمكّن الشخص من معرفة شيءٍ ما أو فهمه بطريقة سريعة وفورية. وشَغَل الحدسُ الفلاسفةَ من أفلاطون وأرسطو وصولًا إلى ديكارت وكانت. وذهب شوبنهاور إلى أن الحدس أكثر أصالة من التفكير العقلاني للوصول إلى الحقيقة.
يتراكم الحدس عند البشر عبر تجاربهم العاطفية، وتراكم المعرفة، والذكريات، والخبرات الجسدية. وهذا ما لا يمكن أن يحدث لأداة الذكاء الاصطناعي؛ فهي ترصد هذه الخبرات عن طريق ما يُكتب عنها وما يُدوَّن، لكنها لا تدركها.
إذا ما امتلك الذكاء الصناعي الحدس، فلعلَّه سيتمكن من إنشاء نصوص إبداعية تُثير قلقنا نحن الكتّاب. لكن ما يدعو للقلق حقًّا هو أن يتفوّق بقدرته على مُحاكاة "الحدس الإنساني" أكثر من مُحاكاة "المنطق الإنساني"، وبذلك سيمتلك القدرة على اتخاذ القرار، بطريقةٍ تتجاوز التحليل المنطقي، وتقترب أكثر من الأهواء البشرية.
وهذا مكمن الخطر.