
في طفولتي أيام التسعينيات، تصفّحت عددًا من أعداد القافلة، لم أكن أقرأ المقالات الطوال، إذ أكتفي كأي طفل في عمري بمطالعة الصور والتعليقات أسفلها. لفت انتباهي صورة لظاهرة جيولوجية وقد كتب أسفلها: "صورة لطفل ..." مع تعليق طويل يصف الظاهرة. أُعجبت حينها بأن هناك طفلًا قد يكون في مثل عمري، يجيد التصوير لدرجة أن صورته نُشرت في القافلة. وأنه جيولوجي رغم صغر عمره! حينها قرّرت بأن هذا الطفل، الذي لم أرَ وجهه، هو مَثَلي الأعلى، وسأكون مِثْله أهوى التصوير، وجيولوجي مغامر!
فعلًا، قادني ذلك القرار الطفولي البحت إلى أن أمشي على هذه الخطة التي حدَّدت هوايتي وتخصصي مستقبلًا. ويبدو أنني تماديت في التقيّد بحذافير خطة الطفولة لدرجة أن ابني يرى بأنني جيولوجي فاقدٌ للأهلية المالية بسبب العدد غير المبرر من الكاميرات التي أمتلكها - وأحمد الله أنه لا يعلم عن كمية الصخور التي كانت لدي عندما كنت في عمره.
قبل فترة، كنت أتصفح الأعداد القديمة، وأكتفي بقراءة التعليقات تحت الصور، كعادتي أيام الطفولة، فوجدت ذاك العدد الذي بنيت حوله أسطورتي الشخصية! أخرجت جوالي لألتقط صورة للمقال، فلعلّه يكون فكرة لمنشورٍ بعبارات تحفيزية مُستهلَكة حول تحقيق الأهداف. ولكني عندما أعدت قراءة التعليق أسفل الصورة، وجدته لا يشبه الأسطورة التي أعرفها منذ سنوات، لقد كانت العبارة: "صورة لطَفل رمادي..."، فهناك فتحة فوق حرف الطاء في كلمة "طَفل" وهو صخرة معروفة! حينها لم أكُن أدري أيهم أكثر وجعًا: مسار حياتي الذي اخترته بسبب خطأ في القراءة؟ أم اكتشاف أنني لم أكن أجيد القراءة عندما كنت طفلًا؟ أم منشوري التحفيزي الذي طار وخسرته!
شخصيًّا أرى أن الأساطير الشخصية، كهذه الأسطورة التي انهارت أمامي، مفيدة في حياتنا اليومية، فهي تأتي لتبرير قراراتنا وخياراتنا الشخصية أمام أنفسنا. كما أنها توفر قصة جاهزة وأنيقة أمام الآخرين للإجابة على أسئلتهم المتكررة: لماذا اخترت تخصصك هذا؟ لماذا سميت ابنتك بهذا الاسم؟ لماذا لديك الكثير من الكاميرات؟ هنا الأسطورة الشخصية ستنقذني وستوفر لي إجابة شاعرية جاهزة، حتى وإن كانت إجابة غير موضوعية!
هب أنني قرأت التعليق أسفل الصورة وانتبهت للفتحة فوق حرف الطاء، هل ستتغير خياراتي الشخصية ولن أختار تلك الهواية وذلك التخصص؟ ليس بالضرورة؛ الأسطورة الشخصية تبقى مجرد قصة، وعدم حدوثها لا يدل بالضرورة على أن النتيجة ستتغير. كما أن وظيفتها الأهم أنها تعمل على تبسيط الأحداث واختزالها إلى حدِّ التسطيح أحيانًا ليسهل سردها أمام الآخرين، فاختياري لتخصصي لا يمكن اختزاله في حدث واحد فقط، بل هو بسبب مجموع العوامل والحوادث والظروف المحيطة والسياق الزمني الذي تربيت فيه. لكن يصعب سردها كلها، فيأتي هنا دور الأسطورة الشخصية البسيطة!
لو لم توجد الأسطورة الشخصية.. لاختلقناها وصنعناها!