
في زمن التلقي السريع، حيث تمرّ النصوص أمام أعيننا كما تمرّ الإعلانات، وحيث تتحول المعرفة إلى جرعات خفيفة متسارعة وقابلة للابتلاع دون مضغ، يُطرح السؤال الجوهري: من يقرأ حقًّا؟ وهل ما زالت للقراءة مكانتها القديمة في عالم تُختصر فيه المعاني في تغريدة، ويُستبدل فيه التأمل بالتمرير السريع؟
لم تكُن القراءة قط فعلًا آليًّا، بل علاقة مركّبة بين ذاتٍ تقرأ ونصٍّ يقاوم أن يُفهم بسهولة. لطالما كانت القراءة تمرينًا على التباطؤ، على الإنصات العميق، على أن يتخلّى القارئ عن سلطته ليصير مرافقًا متردّدًا داخل متاهة المعنى. لكن ما الذي تبقّى من هذا الفعل النبيل في زمن الأجهزة الذكية؟
يتحدث رولان بارت في كتابه "لذة النص"، عن القارئ بوصفه مكمّلًا للنص، شريكًا في إنتاج المعنى. لم يكُن القارئ مستهلكًا فقط، بل صانعًا. كان النص، في نظر بارت، لا يكتمل إلا بفعل القراءة، بذاك التوتر بين المكتوب والمتخيَّل. فهل يمكن اليوم لقارئ غارق في إيقاع التطبيقات والتنبيهات اللحظية أن يمنح النص ذلك الزمن الضروري ليُزهِر؟
بورخيس، الذي حلم بمكتبة لامتناهية، كان يرى في القارئ كائنًا يحاول إعادة ترتيب الفوضى الكونية من خلال الكلمات. لكن القارئ الذي تصوّره بورخيس لم يكن قارئًا يبحث عن فائدة مباشرة، بل عن نوع من الانخطاف، من السفر خارج اللغة وداخلها. هذا القارئ بات مُهدَّدًا بالانقراض، لا بسبب غياب الكتب، بل بسبب فيضها. لقد تحوّل الخطر من نقص المعرفة إلى فرطها.
ماريو بارغاس يوسا، من جهته، دقّ ناقوس الخطر حين كتب عن "حضارة الفرجة"، حيث لم تعُد الكتب تُقرَأ بل تُستعرض، لم تعُد الرواية ملاذًا للفهم العميق، بل مجرد رفٍّ في صورة إنستغرام. القارئ، في حضارة الفرجة، لم يعُد راغبًا في الحفر داخل النص، بل يريد المعنى جاهزًا، سريعًا، بلا مجاز، بلا تعب.
لماذا غاب القارئ إذًا؟ لعلّه لم يغِب بالكامل، لكنه اختفى تحت قناع السرعة. لم يعُد له الوقت ليجلس أمام كتاب، ليفتح هامشًا، ليسجّل ملاحظة، ليرتدّ خطوة إلى الوراء كي يعيد فهم جملة واحدة. لقد تحوّل من قارئ إلى متابع. ومن المتابعة إلى التلقي، ومن التلقي إلى النسيان.
لكن، رغم كل شيء، لا تزال القراءة قادرة على المقاومة. في الهامش، في العزلة، في اللحظات التي نُغلق فيها الشاشة ونفتح كتابًا، لا لأن علينا أن نقرأ، بل لأن ثمة شيئًا داخليًّا لا يتوازن إلا بتلك العادة القديمة. القراءة، حين تكون صادقة، ليست ترفًا، بل استعادة لنفسك التي تنفلت منك في زحمة اليوم.
القارئ الغائب ليس ميتًا، لكنه مُتعَب، مُشتَّت، وربما يحتاج فقط إلى من يُذكّره أن النص ليس ماضيًا يُقرأ، بل هو مستقبل يُكتَب معه. وأن العودة إلى القراءة ليست عودة إلى الماضي، بل إلى ما هو أكثر إنسانية فينا: الحاجة إلى الفهم، إلى المعنى، إلى الحكاية.
في زمن السرعة، قد تكون القراءة أبطأ الطرق، لكنها أيضًا أصدقها.