Hero image

ما تأثير شخصية الفنّان في تلقّيك لأعماله؟

سبتمبر – أكتوبر | 2025

سبتمبر 18, 2025

8 دقائق

شارك

في الماضي، كان بإمكاننا الاستمتاع بالأعمال الفنية دون معرفة الكثير عن حياة الفنان نفسه. أما اليوم، فالثورة المعرفية وانتشار الإنترنت وسهولة الوصول إلى معلومات شاملة ووافية عن خلفيات أي فنان من الناحية الثقافية والاجتماعية والسياسية، وحتى عن طباعهم الشخصية، تجعل الأسئلة التالية موضع نقاش: 

هل يمكننا أن نحب العمل الفنيّ ونقدّره دون أن نحب أو نقدّر شخصية الفنان نفسه؟
وهل تفرض علينا الاعتبارات الأخلاقية والجمالية ضرورة التدقيق في هوية الفنان قبل أن نتمكن من تقدير عمله الفني؟
عندما نتعرف إلى تفاصيل حياة المبدع، هل تبقى هذه المعلومات مجرد حقائق عابرة، أم أنها تؤثر بعمق في تجربتنا الفنية وفهمنا للعمل الإبداعي نفسه؟ 

Bedayat Kalam Abdulrahman Alsalman

عبدالرحمن السليمان
فنان تشكيلي

من هذه الزاوية، لا أرى أن شخصية الفنان يجب أن تكون موضع تقييم حين نحكم على عمله الفني. لا علاقة ضرورية أو حتمية بين معرفة الفنان أو محبته وبين تقديرنا لإبداعه. فالفنان، بكل خصوصياته وتعقيداته، ليس مطالبًا بأن يكون مثالًا أخلاقيًا أو إنسانيًا حتى نقبل فنه أو نُعجب به. صحيح أننا نرتاح أكثر حين يتصف الفنان بجوانب إنسانية عالية، ويظهر لنا بصورة نبيلة في علاقاته وتعاملاته، لكن هذا لا ينبغي أن يكون شرطًا لتقدير نتاجه الإبداعي.

الحكم على العمل الفني يجب أن يبقى في إطار ما يقدّمه من جماليات، وتقنيات، ورؤى إبداعية، دون إسقاطات شخصية. كثير من الفنانين الكبار في التاريخ لم نعرف عنهم شيئًا إلا عبر الكتب أو الشهادات المتناثرة، وربما كانت لديهم سلوكيات أو طباع لا نرتضيها، ومع ذلك نحتفي بأعمالهم، ونتأثر بها.

الفنانون مثل باقي البشر: منهم الانطوائي، ومنهم من يعاني اضطرابات نفسية، أو يحمل ماضيًا معقّدًا، لكن هذا لا يعني أن إنتاجهم ناقص أو غير جدير بالاهتمام. فالعمل الفني يجب أن يُقرأ بوصفه منتجًا قائمًا بذاته، لا مرآة مطلقة لشخصية صاحبه.

صحيح أن النقاد أو الباحثين في الفن قد يحتاجون للعودة إلى جوانب من حياة الفنان لفهم أعماله، كما يحدث مع فنانين مثل فان جوخ أو دالي، ولكن هذه المسألة تظل جزءًا من التحليل النظري، لا من تفاعل الجمهور العام. في النهاية، يظل الفن تجربة فردية، والمتلقي أحرص ما يكون على التحرر من المؤثرات الخارجية، لينظر إلى العمل بعين مجردة، مفتوحة على الجمال والمعنى، لا على سيرة الفنان. 

Bedayat Kalam Hanaa Hijazi

هناء حجازي
فنانة تشكيلية 

أعتقد أن هناك فنانين أحببنا أعمالهم وتأثرنا بها، ثم اكتشفنا لاحقًا أن لهم جوانب مظلمة في شخصياتهم أو تصرفاتهم. بيكاسو، على سبيل المثال، نعلم اليوم أنه كان يتعامل مع النساء بطريقة ذكورية قاسية، وصلت في بعض الحالات إلى الإيذاء النفسي وربما أكثر. ومع ذلك، لا نزال نستمتع بمشاهدة أعماله، ونتأمل عبقريته، برغم رفضنا لسلوكه الشخصي ومواقفه تجاه المرأة. 

وهنا يُطرح السؤال نفسه: هل يجب أن تؤثر أخلاقيات الفنان وسلوكياته الشخصية في تقديرنا لأعماله الفنية؟ وهل تفرض علينا اعتبارات أخلاقية أو جمالية أن نتوقف أمام هوية الفنان قبل أن نسمح لأنفسنا بالانغماس في فنه؟ 

الحديث عن “الاعتبارات الأخلاقية” يبدو فضفاضًا، فما الذي تعنيه هذه العبارة بدقة؟ الأخلاق ليست معيارًا ثابتًا؛ فهي تختلف من مجتمع لآخر، ومن عصر لآخر. ما كان مقبولًا اجتماعيًا في زمن بيكاسو قد يُعدّ مرفوضًا اليوم. فهل يمكننا محاكمة الفن بأثر رجعي؟ 

ثم من الذي سيقرر ما إذا كان سلوك الفنان مقبولًا أم لا؟ وهل يحق لأحد أن يضع قائمة تفتيش أخلاقية لفنانين ماتوا منذ عقود؟ في النهاية، لا أعتقد أن معرفة تفاصيل حياة الفنان، أو ماضيه، يجب أن تفرض نفسها على تجربتنا مع عمله الفني. 

لقد شاهدت شخصيًا أفلامًا وثائقية تنتقد بيكاسو، وقرأت شهادات من نساء عرفنه عن قرب، لكن التفاصيل تتلاشى بمرور الوقت. ما يبقى في الذاكرة هو أثر العمل الفني نفسه، ذلك الأثر الذي نحاكمه من خلال أدوات الفن، لا من خلال الفضيلة الشخصية أو سيرة الحياة.

Bedayat Kalam Abdulazim Shaly

عبدالعظيم شلي
فنان تشكيلي

في العقود الماضية، لم تكن الأعمال الفنية تُعرض بمعزل عن أصحابها، بل كانت وسائل الإعلام التقليدية، من مجلات وصحف وكتب متخصصة وحتى البرامج التلفزيونية، تفتح فضاءات معرفية رحبة تتيح للجمهور الاطلاع إلى العمل الفني وسياقه الإبداعي، والتعرف إلى خلفية الفنان ومكانته في المشهد الثقافي. فقد حرص القائمون على هذه الوسائط على تقديم الأعمال من زوايا متعددة، مسلّطين الضوء على روائع الفن محليًا وعالميًا، وذاكرين أسماء الفنانين، تفصيليًّا أو ضمنيًّا، مع شرح مبسط للرؤية الجمالية أو الفكرية الكامنة وراء العمل.

مجلة القافلة، على سبيل المثال، أدت دورًا رائدًا في التعريف بالحركة الفنية في المملكة منذ أوائل الستينيات، إذ كانت تنشر لوحات لفنانين سعوديين مرفقة بأسمائهم في كل عدد، مما أتاح للقراء تكوين علاقة بصرية ومعرفية مباشرة مع الإنتاج الفني المحلي. هذا التقليد توقف لفترة لكنه استؤنف لاحقًا، ليواصل دوره التوثيقي والتعريفي. وعلى نحو مشابه، أسهمت مجلات ثقافية عربية أخرى في ترسيخ أسماء الفنانين في الذاكرة الثقافية، إلى جانب إسهاماتهم الإبداعية.

اليوم، ومع الثورة الرقمية وتطور الوسائط التفاعلية، بات الوصول إلى العمل الفني أسهل من أي وقت مضى. لم يعد الجمهور ينتظر معرضًا أو برنامجًا تلفزيونيًا، بل يمكنه التفاعل مع العمل مباشرة عبر الإنترنت، والتجول افتراضيًا بين المتاحف، وسماع الفنان يشرح فلسفته الإبداعية. ومع تنوع المدارس والاتجاهات، تبقى بعض الأعمال أكثر شفافية في قراءتها، بينما تتطلب أخرى تأملًا ومعرفة. غير أن قوة العمل الفني الحقيقي تظل قائمة، حتى في غياب التوقيع، ما دام يحقق التوازن بين جمال الشكل وعمق الفكرة. 

Bedayat Kalam Fatimah Alnemer

فاطمة النمر
فنانة تشكيلية 

في زمن مضى، كان العمل الفني يُستقبل كيانًا مستقلًّا، يحاور الحواس والخيال، ويُقيم علاقة مباشرة مع المتلقي، دون أن يُثقل بتفاصيل سيرة صاحبه أو خلفياته الشخصية. كانت اللوحة تُرى كما هي، والنحت يُلامَس جسدًا فنيًّا خالصًا،  لا امتدادًا لحياة خاصة أو موقف معلن. أما اليوم، ومع انكشاف العوالم الداخلية للمبدعين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والمقابلات، والوثائقيات، بات من الصعب فصل العمل الفني عن الفنان الذي يقف خلفه. نقرأ اللوحة فنسمع صوته، نرى المنحوتة فنستحضر ماضيه، مواقفه، علاقاته، بل وحتى عثراته الأخلاقية أو السياسية. 

لكن، هل يجب أن نحب الفنان كي نحب فنه؟ لا أظن. فالتجربة الجمالية قد تكون صادقة ومؤثرة حتى وإن صدرت من روح معذبة أو مثيرة للجدل. كثير من الأعمال الخالدة جاءت من فنانين لم يحظوا بالاعتراف في زمانهم، مثل فان جوخ، أو حملت رؤى قاتمة كما في أعمال جويا. الفن يمتلك طاقة تتجاوز صاحبها، ويمكنه أن يعيش مستقلًا في وجدان المتلقي، يتحدث إليه بلغته الخاصة وبمنظوره الفريد. 

ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن معرفة خلفية الفنان قد تُلقي بظلالها على التجربة الجمالية. أحيانًا، حين نكتشف أن عملًا فنيًا نشأ عن رؤية عنصرية أو استغلالية، يعيد ذلك تشكيل مشاعرنا نحوه. فالسياق مهم، والتفاصيل الشخصية ليست مجرد هوامش، بل قد تكشف لنا عن رموز خفية أو دوافع مضمَرة في العمل. 

في النهاية، يبقى القرار شخصيًا. بين من يفصل الفن عن الفنان، ومن يراهما كوجهين للتجربة ذاتها. فالجمال لا يُدرك فقط بالبصر، بل بالوعي أيضًا، وهو مرآة تعكس ذائقتنا كما تعكس براعة الإبداع.