Hero image

الصور الزائفة في حروب احتلال الوعي

د. خالد صالح حنفي

أغسطس 20, 2025

شارك

قديمًا، قال الفيلسوف الإغريقي الشهير سقراط لمُحدّثه الذي ارتدى أبهى حلّة واصطنع الهيبة بمرافقيه وحرسه: "تكلّم لأراك". عبارة خَلّدها الزمن، ومن دلالاتها أنه من الصعب تشكيل صورة مكتملة أو مقاربة للحقيقة عن شيءٍ ما إذا لم تقترب منه وتُعاينه وتحاول سبر أغواره، واستقصاء ما يخفيه؛ فالأشياء لا تكشف عن حقيقتها بسهولة، ولا تكفي الصورة الظاهرة منها لمعرفتها؛ فثمّة دومًا شيءٌ من الحقيقة الخفيّة لا يمكن رصده بالمشاهدة السطحية. وقد عرّف أفلاطون الفلسفة بأنها "البحث عن الحقائق الكامنة خلف الأشياء".

وللأسف الشديد، تستأنس الجماهير بالصور النمطية، والقوالب الجاهزة، والتعميمات المتسرّعة التي تُريح عقولها بسهولة استيعابها؛ لأنها تصبّ غالبًا في بوتقة خدمة المصالح، وإثبات التفوق على الآخر، أو التنمّر عليه. كما أن النفس ميّالةٌ لما هو بسيط مع أن الإبستمولوجيا المعاصرة تعلّمنا، من خلال غاستون باشلار، أنه "لا يوجد شيء بسيط، البسيط هو ما نُبسّطه نحن".

وهناك كثيرٌ من الصور والتعميمات التي تُصنع أحيانًا بطرق غير مقصودة، ويسير الناس على هديها دون أي محاولة لاختبار صحتها أو التحقق منها. وقد رأى غاستون باشلار التعميمَ المتسرّع أحد العوائق المعرفية التي تسدّ طريق الباحث عن الحقيقة. وقد يكون الأمر عاديًّا حين يتعلّق بتعميماتٍ وقوالب عفوية، لكن الخطورة الكبرى تأتي عندما تُفبرَك هذه الصور النمطية بطريقة دقيقة، وتُنشر وتُروَّج بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة لتحقيق غاياتها. وهي غالبًا زيادة هيمنة القوي على الضعيف بتحقيره، أو الانتقاص منه، أو السعي إلى تقسيمه وتفتيته حتى يسهل القضاء عليه.
وقد توقّع الفيلسوف الكندي مارشال ماكلوهان، في سنة 1970م، أن الحرب العالمية الثالثة ستكون "حرب عصابات معلوماتية". وبعد أكثر من ثلاثين عامًا، أوضح الباحثان الأمريكيان جون أركويلا وديفيد رونفيلد، في كتابهما "ظهور حروب الشبكات"، أن المعارك اليوم تدور حول المعرفة وقوة المعلومات. فالعمليات الإعلامية لا تستهدف تحقيق أهداف عسكرية فحسب، بل التأثير في مشاعر المجتمع وتصوراته أيضًا، وذلك باستخدام المعلومات وسيلةً لاستقطاب الناس أو تضليلهم، ولزعزعة الاستقرار، والتأثير في سلوكيات الأفراد والمجتمعات.

وقد اعتمدت وزارة الدفاع الأمريكية مصطلح "عمليات دعم المعلومات العسكرية" لوصف الجهود الرامية إلى "نقل المعلومات والمؤشرات المختارة إلى الجماهير الأجنبية للتأثير في عواطفهم ودوافعهم ومنطقهم، وفي النهاية سلوك الحكومات والمنظمات والمجموعات والأفراد، بطريقةٍ مواتية لأهداف المُنشئ".
ووفقًا لتقريرٍ صادرٍ عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو"، عام 2018م، يكمن الخطر المستقبلي في تلويث بيئة المعلومات على الجميع، في إطار سباق تسلح بالمعلومات المضللة والأخبار الزائفة.
وتؤدي المعلومات المنقولة دورًا خطيرًا فيما يُطلق عليه "الهندسة الاجتماعية"، وهي عملية تحليل مجتمعٍ ما وضبطه عن طريق ربط كميات كبيرة من المعلومات التي تُعالج عبر مراكز حوسبةٍ خاصة وبسرعة فائقة، ثم تُنشر من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، عبر ما يُكتب أو يُبثّ من مقاطع صوتية أو فيلمية، واقعية أو متلاعب بها. 
لقد صارت الصورة من أهم الأسلحة الصامتة التي تُطلق وتُحدّد المواقف، وتلعب بالعقل الباطن عبر سيكولوجيا خفية، بدلًا من مخاطبة العقل الواعي. وتفعل ذلك بطريقة لا يُدرك فيها الفرد أو المجتمع حقيقة هذه الأسلحة، وإن أدركها فلن يستطيع مواجهتها. فالأفلام التي تصوّر بؤس المجتمعات الإفريقية في الغابات والأدغال تجعلها، في نظر المجتمعات المتقدمة، مجتمعاتٍ لا تمتلك عقولًا تضعها في مصافّ البشر، إلا بعد انتشالها قهرًا أو عطفًا. وقد استُخدمت هذه الأفلام لإلحاق الهزيمة النفسية بالشعوب، واستدراجها لقبول الاستعمار في القرن الماضي.

وقد أنتجت هوليوود كثيرًا من الأفلام التي تصوّر الإنسان العربي بصورة نمطية أيقونية سلبية. والأسوأ من ذلك، أن ينساق التنميط السينمائي والتلفزيوني العربي في تكريس الصور الشائعة عن الشعوب العربية، فيتلقى الغرب مثل هذه "الشهادة" من أهلها، ويجعلها لافتةً أو بطاقةً تُصنِّف العربي.

ولا سبيل للتصدي لتلك الصور النمطية الزائفة بمثلها. فالفكرة لا تُواجَه إلا بفكرة أقوى منها، والصورة لا تُقاوَم إلا بصورة مضادة فاضحة كاشفة لبُطلان الأولى وخطئها. وهنا تبرز مكانة الفلسفة، لا بوصفها أنساقًا معرفية فقط، بل طريقة ومنهجًا، وآليات للبحث عن الحقيقة والدفاع عنها، وحراسة المعنى. فالشك، ونزع البداهة عبر النقد، والبرهنة، والحِجاج، وغيرها من الأدوات، ضرورية لكشف التعميمات الباطلة.