Hero image

الاستعراب الإسباني

د. إدريس الكنبوري

أغسطس 19, 2025

شارك

شكَّلت التجربة الأندلسية نموذجًا حيًّا للتعايش والتجاور بين مختلف الأديان والثقافات، ومثالًا للتسامح. ولعلَّ من المفارقات، بالنسبة إلى دارسي تاريخ الإسلام، أن الحالة الأندلسية هي الفترة التاريخية الفريدة التي حصل حولها نوع من الإجماع بين سائر الباحثين والمؤرخين؛ إذ جرى التوافق على أنها كانت فترة خصيبة في مضمار التسامح والحوار. وقد عدَّها عدد كبير من المفكرين المسيحيين في العصر الحديث حالة نموذجية ومثالًا مرجعيًّا في الحوار الديني. كما أن سائر المؤرخين اليهود ينظرون إليها بوصفها عصرًا ذهبيًّا في التاريخ اليهودي؛ إذ يرى المؤرخ أندريه شوراكي أنها خلَّصت اليهود من الملاحقات التي كانوا يتعرضون لها على يد المسيحيين في أوروبا، ومكَّنتهم من الاستمرار والبقاء في قلب القارة الأوروبية بعد أن كانوا مهددين بالاندثار.

أثّرت هذه الخصوصية، التي امتاز بها تاريخ الأندلس، في الإنتاج الفكري بوجه عام. فقد انطبع هذا الإنتاج، خصوصًا لدى المسلمين خلال القرون الثمانية التي دام فيها الوجود العربي في شبه الجزيرة الإيبيرية، بميزة الحوار والتعارف والرغبة في اكتشاف الآخر والتعرُّف إلى ثقافته. ولهذا، ليس غريبًا أن يكون أول من ألَّف في مجال الأديان والمقارنة بينها، هو الفيلسوف القرطبي أبو محمد علي بن حزم، الذي عاش في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، حين وضع كتابه الضخم "الفصل في الملل والأهواء والنحل"، للتعريف بالأديان الثلاثة التي كانت متعايشة في الرقعة الأندلسية. ويعُدُّ مؤرخو الأديان اليوم ابنَ حزم هو صاحب قصب السبق في دراسة الديانات المقارنة.
واستمر تأثير هذه الخصوصية الأندلسية إلى ما بعد نشأة الهوية الإسبانية وتكوُّن الكيان القومي الإسباني بعد القرن الخامس عشر، ولا سيَّما خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، اللذين شهدا بروز التيار الاستشراقي الأوروبي. وخلافًا للاستشراق الغربي، وبخاصة الفرنسي منه، نشأ الاستعراب الإسباني بفضول معرفي لإعادة اكتشاف الثقافة العربية الإسلامية، بعد أن كانت جزءًا من التاريخ الإسباني القديم، بل إنها انتشرت في تضاعيف الثقافة واللغة الإسبانيتين، كما يشهد بذلك التأثير العربي في اللسان الإسباني ومعجمه اللغوي.

بالنظر إلى هذه الخصوصية، فإن المستشرقين الإسبان تميّزوا عن نظرائهم في أوروبا بتعريف أنفسهم من خارج النسق الاستشراقي الأوروبي؛ فأطلقوا على أنفسهم لقب "المستعربين"، وعلى الحركة العلمية التي أسّسوها تسمية "الاستعراب" بدل الاستشراق.
وتشير التسمية إلى عرق معين (وهو العرب) لديه دين وثقافة ولغة، بدل عبارة "الاستشراق" التي تشير إلى مكان جغرافي. ويُعَدُّ ميغيل آسين بلاثيوس (1871م – 1944م) أحد أقطاب الاستعراب الإسباني؛ فقد كان شاهدًا على البذور الأولى لنشأة حركة الاستعراب في القرن التاسع عشر، وواكب ميلاد أولى المؤسسات والمراكز العلمية التي ظهرت في إسبانيا بهدف دراسة اللغة العربية والإسلام، وقد عايش الموجة الأولى للاستعراب الإسباني على أيدي روَّاده الأوائل، من أمثال: ميغيل قسيري، وخوصي بانكيري، وخوان دي صوصا، وأستاذه المستعرب الكبير خوليان ريبيرا.

في عام 1896م، التحق بلاثيوس بجامعة مدريد لإكمال دراسته الجامعية؛ إذ حصل على شهادة الدكتوراة عن أطروحة خصّصها لدراسة فكر أبي حامد الغزالي. وقد بقي أثر فكر صاحب "الإحياء" حاضرًا بقوة في مساره العلمي اللاحق، حتى إنه خصّص له كتابًا آخر في سنواته المتأخرة. كما أنه أفرد لابن حزم كتابًا شاملًا نشره عام 1907م، ودراسة علمية نشرها في مجلة "الأندلس" عام 1934م، كما نشر كتبًا عديدة ودراسات متفرقة عن عدد من الأعلام العرب الأندلسيين.
أسّس بلاثيوس تيارًا جديدًا في الاستعراب الإسباني، يرتكز على منهج المقارنة بين الفكر الإسلامي والفكر المسيحي، وخصوصًا في الجوانب الفلسفية. ينبني منهج بلاثيوس على أهميّة تحديد مكامن الالتقاء بين الثقافتين، ويرفض الذهاب إلى مقولة الصفاء الثقافي لدى الشعوب، وذلك تأكيدًا بأنّ الثقافات الإنسانية تتعايش فيما بينها وتتداخل تداخلًا طبيعيًّا يعمل فيه اللاوعي الجمعي دورًا مركزيًّا.

غير أن أكبر إسهاماته كانت دراسته الشهيرة حول تأثير الثقافة الإسلامية في الكوميديا الإلهية للفيلسوف والأديب الإيطالي دانتي أليغييري (Dante Alighieri). وقبل ذلك الوقت، كان الشائع أن كتاب دانتي متأثر بالكتب المسيحية المقدّسة.
خبرة بلاثيوس الطويلة مع الفكر الإسلامي والثقافة العربية منحته القدرة على تجريد منهجه العلمي من الهواجس الأيديولوجية، وهو ما يجعله اليوم نموذجًا للتلاقي الحضاري بين الثقافتين العربية والإسبانية.

 
 شرح الصورة أعلى الصفحة: قصر الحمراء.