
حين وقَّع "فاوست" بدمه على تسليم روحه مقابل الحصول على المعرفة المطلقة والقوة الخارقة، لم يكن يسلِّم روحه فقط، بل كان يضع العالم أمام فكرة جديدة: أن المعرفة يمكن أن تُفصَل عن الحكمة، وأن القوة قد تصبح غاية في ذاتها. وكم تشبه حالنا اليوم حال "فاوست" في سعينا لامتلاك المعرفة والتكنولوجيا والسلطة، لا من أجل خلاص الإنسان، بل من أجل الهيمنة والربح والسيطرة. وهكذا، يبقى العقد المبرم قائمًا: نبيع أرواحنا؛ أي جوهر إنسانيتنا، مقابل لحظة وهمية من التفوُّق أو السيادة أو الخلود.
حكاية "فاوست" تحيلنا إلى "ميداس" في الأسطورة الإغريقية. لقد تمنَّى "ميداس" أن يتحوّل كلَّ ما يلمسه إلى ذهب، وتوصَّل إلى ما تمنَّاه. لمس غصن بلّوط وحجرًا، فتحوّل كلاهما إلى ذهب. ولمس ورود حديقته فصارت ذهبًا. لكنه ما لبث أن مات جوعًا؛ لأن الطعام والماء تحوّلا إلى ذهب أيضًا.
نحن اليوم على مفترق طرق لا يبتعد كثيرًا عن ذلك المسار. وعلى هذا الدرب نفسه، تضاءلت المسافة بين الواقع والمتخيَّل، ودخلنا فيما يُسمَّى الرأسمالية الرقمية التي تمثّل اليوم أحد الأبعاد الرأسمالية الحادة. وهي، بخلاف الرأسمالية الصناعية، تستطيع أن تحوِّل كلَّ ما هو غير مادي إلى سلعة. تصبح الحياة نفسها سلعة، والإنسان أيضًا، والثقافة، والذائقة، وحتّى العواطف والأحاسيس.
تروي الكاتبة اليابانية، يوكو أُوغاوا، في روايتها "تَبَلوُر سرّي"، قصة جزيرة بلا اسم. في هذه الجزيرة، تطرأ حوادث غريبة تجعل سكانها يعيشون حالة من الحيرة والتوتُّر. ثمَّة أشياء وكائنات تختفي حولهم ولا تفسير لاختفائها، فضلًا عن أن استعادتها غير ممكنة. مع اختفاء الأشياء والكائنات، تختفي الذكريات أيضًا. اختفاء العصافير وألحانها، والورود، وألبومات الصور الفوتوغرافية، والروزنامات، والمدوّنات، والحكايات، وكذلك العطر الذي كان يستهوينا ويؤاسينا. تصف يوكو أُوغاوا، من خلال هذه الرواية، نظامًا متكاملًا يعمل على محو أثر الأشياء الملموسة في المجتمع، ومحو الذكريات لدَفْع الناس نحو نسيان كامل، فلا يعود بإمكانهم التعرّف إلى أنفسهم. أمَّا من يتجرَّأ ويُخفي شيئًا أو ذكرى، فيعرّض حياته للخطر! أفتح قوسين هنا لأشير إلى أن النظام الذي تتحدَّث عنه المؤلِّفة لم يَعُد بعيدًا عنَّا، بل صرنا، نحن أيضًا، نُسهم في إحيائه وتجسيد ما يخطّط له، من خلال استخدامنا اليومي لوسائل التواصل الاجتماعي. وما كان بالأمس القريب جزءًا من عالمنا الحميم، نخفيه في الأدراج، ونقفل عليه ونحميه، ها نحن اليوم نعرضه أمام الملأ، ليغدو متاحًا للجميع. نتلصّص على أنفسنا، فيما الآخرون يتلصّصون علينا.
رواية أُوغاوا تذكّرني بروايات وقصص كثيرة كُتبت بين النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، واستشرفت الواقع الذي نتحرَّك ضمنه، ومنها قصة قصيرة شهيرة عنوانها "الآلة تتوقَّف" للكاتب البريطاني إدوارد مورغان فورستر (نُشرت في عام 1909م)، وتتحدَّث عن مستقبل يعيش فيه الإنسان تحت الأرض، في غرف منفردة بالكامل، معزولًا عن جمال العالم الحقيقي، بينما تدير آلة ضخمة كلَّ شيء، وتمنح الفرد ما يشتهي، من دون أن يغادر مكانه. لكنه، في المقابل، يفقد القدرة على الحب، على لمس الآخر، على التفكير... ثمَّ راحت هذه الآلة تتوقَّف بصورة تدريجية، ولاحظ الناس علامات هذا الانهيار، لكنهم كانوا عاجزين عن مواجهة هذا التحدّي؛ لأنهم فقدوا مهارات الحياة الأساسية، فكيف يصلحونها وقد نسوا كيف صُنعت؟
الرسالة التي أراد الكاتب إيصالها من خلال هذه القصة المتخيّلة، التي كُتبت في مطلع القرن الماضي، تؤكد أن ما حدث كان نتيجة الاعتماد المُفرط على التكنولوجيا وفقدان الاتصال بالواقع. وهذه الحالة قد تتكرَّر اليوم تمامًا، في غياب المعايير القيميَّة والأخلاقية التي تحمي الإنسان من الانحدار إلى همجية من أزمنة سحيقة. لذا، لا بدَّ من مواجهة أزمة القيم التي تهزُّ عالمنا الراهن بقوة، وتثير العديد من الشكوك والقلق وعدم اليقين.
في قلب هذا العالم المتغيِّر، ترتفع منذ عقود أصوات علماء ومبدعين من مختلف الحقول، يشكّلون الفئة التي يعنيها مستقبل الإنسان والبيئة والحياة على الأرض. هؤلاء ما زالوا يراهنون على العِلم بصفته ضوءًا يكشف الطريق ولا يُعمي الأبصار، ويحذِّرون من تسليع كلِّ شيء وتحويل الكائن مجرَّد قيمة تبادلية.
ضمن هذا الأفق، يتحرك الإبداع الحقيقي، شرقًا وغربًا، على الرغم من التحديات الكثيرة التي تواجهه. فهو لا يمثِّل ظاهرة جمالية فحسب، بل أيضًا مسعًى إنسانيًّا بامتياز. كلمة Humanitas (الإنسانية باللاتينية)، المشتقّة من كلمة Homo (إنسان)، هي مفهوم يرقى إلى القرن الأول قبل الميلاد، ويهدف إلى توصيف ما يميِّز الإنسان وتحديد خصائصه وشرط وجوده. إن الحديث عن الإبداع اليوم، فكرًا وفنًّا وأدبًا، يُحيلنا إلى النزعة الإنسانية المهدّدة بوجودها مع تصاعد التسلُّط والعنف بإمكانات تدميرية غير مسبوقة، وتَراجُع الكثير من المبادئ الأساسية للقانون الدولي، في عالم يعود بشكل خطير إلى منطق القوة الخالص.
أيُّ معنى للعلم إذا لم يكن في خدمة البشرية وتقدُّمها، وإذا لم يساعدنا على الخروج من دائرة النزاعات الكبرى والحروب التي ليست قدرًا، بل نتيجة لاختياراتٍ بشرية يمكن تجاوزها بالوعي والمعرفة؟ في القرن السادس عشر؛ أي منذ بداية الثورة العلمية في الغرب، قال الكاتب الفرنسي فرانسوا رابليه عبارته الأثيرة: "العِلم بلا ضمير هو خراب للروح". وهي عبارة تختزل مأساة الإنسان المعاصر. فلكي تُصان الحياة على هذه الأرض، لا بدَّ من ردم الهُوَّة بين التقدُّم العلمي والتكنولوجي من جهة، والنزعة الإنسانية من جهة أخرى. وإلَّا، فكيف تلوح في الأفق نجمة ميلاد جديد؟
حكاية "فاوست" تحيلنا إلى "ميداس" في الأسطورة الإغريقية. لقد تمنَّى "ميداس" أن يتحوّل كلَّ ما يلمسه إلى ذهب، وتوصَّل إلى ما تمنَّاه. لمس غصن بلّوط وحجرًا، فتحوّل كلاهما إلى ذهب. ولمس ورود حديقته فصارت ذهبًا. لكنه ما لبث أن مات جوعًا؛ لأن الطعام والماء تحوّلا إلى ذهب أيضًا.
نحن اليوم على مفترق طرق لا يبتعد كثيرًا عن ذلك المسار. وعلى هذا الدرب نفسه، تضاءلت المسافة بين الواقع والمتخيَّل، ودخلنا فيما يُسمَّى الرأسمالية الرقمية التي تمثّل اليوم أحد الأبعاد الرأسمالية الحادة. وهي، بخلاف الرأسمالية الصناعية، تستطيع أن تحوِّل كلَّ ما هو غير مادي إلى سلعة. تصبح الحياة نفسها سلعة، والإنسان أيضًا، والثقافة، والذائقة، وحتّى العواطف والأحاسيس.
تروي الكاتبة اليابانية، يوكو أُوغاوا، في روايتها "تَبَلوُر سرّي"، قصة جزيرة بلا اسم. في هذه الجزيرة، تطرأ حوادث غريبة تجعل سكانها يعيشون حالة من الحيرة والتوتُّر. ثمَّة أشياء وكائنات تختفي حولهم ولا تفسير لاختفائها، فضلًا عن أن استعادتها غير ممكنة. مع اختفاء الأشياء والكائنات، تختفي الذكريات أيضًا. اختفاء العصافير وألحانها، والورود، وألبومات الصور الفوتوغرافية، والروزنامات، والمدوّنات، والحكايات، وكذلك العطر الذي كان يستهوينا ويؤاسينا. تصف يوكو أُوغاوا، من خلال هذه الرواية، نظامًا متكاملًا يعمل على محو أثر الأشياء الملموسة في المجتمع، ومحو الذكريات لدَفْع الناس نحو نسيان كامل، فلا يعود بإمكانهم التعرّف إلى أنفسهم. أمَّا من يتجرَّأ ويُخفي شيئًا أو ذكرى، فيعرّض حياته للخطر! أفتح قوسين هنا لأشير إلى أن النظام الذي تتحدَّث عنه المؤلِّفة لم يَعُد بعيدًا عنَّا، بل صرنا، نحن أيضًا، نُسهم في إحيائه وتجسيد ما يخطّط له، من خلال استخدامنا اليومي لوسائل التواصل الاجتماعي. وما كان بالأمس القريب جزءًا من عالمنا الحميم، نخفيه في الأدراج، ونقفل عليه ونحميه، ها نحن اليوم نعرضه أمام الملأ، ليغدو متاحًا للجميع. نتلصّص على أنفسنا، فيما الآخرون يتلصّصون علينا.
رواية أُوغاوا تذكّرني بروايات وقصص كثيرة كُتبت بين النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، واستشرفت الواقع الذي نتحرَّك ضمنه، ومنها قصة قصيرة شهيرة عنوانها "الآلة تتوقَّف" للكاتب البريطاني إدوارد مورغان فورستر (نُشرت في عام 1909م)، وتتحدَّث عن مستقبل يعيش فيه الإنسان تحت الأرض، في غرف منفردة بالكامل، معزولًا عن جمال العالم الحقيقي، بينما تدير آلة ضخمة كلَّ شيء، وتمنح الفرد ما يشتهي، من دون أن يغادر مكانه. لكنه، في المقابل، يفقد القدرة على الحب، على لمس الآخر، على التفكير... ثمَّ راحت هذه الآلة تتوقَّف بصورة تدريجية، ولاحظ الناس علامات هذا الانهيار، لكنهم كانوا عاجزين عن مواجهة هذا التحدّي؛ لأنهم فقدوا مهارات الحياة الأساسية، فكيف يصلحونها وقد نسوا كيف صُنعت؟
الرسالة التي أراد الكاتب إيصالها من خلال هذه القصة المتخيّلة، التي كُتبت في مطلع القرن الماضي، تؤكد أن ما حدث كان نتيجة الاعتماد المُفرط على التكنولوجيا وفقدان الاتصال بالواقع. وهذه الحالة قد تتكرَّر اليوم تمامًا، في غياب المعايير القيميَّة والأخلاقية التي تحمي الإنسان من الانحدار إلى همجية من أزمنة سحيقة. لذا، لا بدَّ من مواجهة أزمة القيم التي تهزُّ عالمنا الراهن بقوة، وتثير العديد من الشكوك والقلق وعدم اليقين.
في قلب هذا العالم المتغيِّر، ترتفع منذ عقود أصوات علماء ومبدعين من مختلف الحقول، يشكّلون الفئة التي يعنيها مستقبل الإنسان والبيئة والحياة على الأرض. هؤلاء ما زالوا يراهنون على العِلم بصفته ضوءًا يكشف الطريق ولا يُعمي الأبصار، ويحذِّرون من تسليع كلِّ شيء وتحويل الكائن مجرَّد قيمة تبادلية.
ضمن هذا الأفق، يتحرك الإبداع الحقيقي، شرقًا وغربًا، على الرغم من التحديات الكثيرة التي تواجهه. فهو لا يمثِّل ظاهرة جمالية فحسب، بل أيضًا مسعًى إنسانيًّا بامتياز. كلمة Humanitas (الإنسانية باللاتينية)، المشتقّة من كلمة Homo (إنسان)، هي مفهوم يرقى إلى القرن الأول قبل الميلاد، ويهدف إلى توصيف ما يميِّز الإنسان وتحديد خصائصه وشرط وجوده. إن الحديث عن الإبداع اليوم، فكرًا وفنًّا وأدبًا، يُحيلنا إلى النزعة الإنسانية المهدّدة بوجودها مع تصاعد التسلُّط والعنف بإمكانات تدميرية غير مسبوقة، وتَراجُع الكثير من المبادئ الأساسية للقانون الدولي، في عالم يعود بشكل خطير إلى منطق القوة الخالص.
أيُّ معنى للعلم إذا لم يكن في خدمة البشرية وتقدُّمها، وإذا لم يساعدنا على الخروج من دائرة النزاعات الكبرى والحروب التي ليست قدرًا، بل نتيجة لاختياراتٍ بشرية يمكن تجاوزها بالوعي والمعرفة؟ في القرن السادس عشر؛ أي منذ بداية الثورة العلمية في الغرب، قال الكاتب الفرنسي فرانسوا رابليه عبارته الأثيرة: "العِلم بلا ضمير هو خراب للروح". وهي عبارة تختزل مأساة الإنسان المعاصر. فلكي تُصان الحياة على هذه الأرض، لا بدَّ من ردم الهُوَّة بين التقدُّم العلمي والتكنولوجي من جهة، والنزعة الإنسانية من جهة أخرى. وإلَّا، فكيف تلوح في الأفق نجمة ميلاد جديد؟