
الاختيار لم يعد مرهونًا بجاذبية الوجهة وحدها، بل بما تتيحه من تجارب استثنائية تتناغم مع اهتمامات كل فرد؛ سواء كان يبحث عن الطبيعة البكر، أو يفتش عن مغامرة في الجبال، أو يسعى إلى الانغماس في ثقافة محلية أصيلة. إن ما يوجه البوصلة الآن هو الشغف بما يمكن أن يُعاش ويُختبر، لا بما يُرى فقط.
وعلى ضوء ذلك، برزت مؤخرًا ظاهرة بين محبي السفر وهواته، وهي البحث عن وجهات سفر غير تقليدية. ولمَّا كانت هذه التجارب تمنح خبرة مختلفة عن السياحة التقليدية، توجّهنا إلى عدد من أصحاب التجارب المتميزة في هذا المجال لنعرف أكثر عن هذا النوع من الرحلات.

نافذة لفهم الشعوب
صالح بن عبدالله الحمد
ما يجعلني أختار وجهات غير مألوفة في أسفاري ليس مجرد حب التغيير، بل دافع عميق لاكتشاف عوالم جديدة وتجارب تثري الروح. لطالما كان البحث عن مغامرات فريدة والتقاطع مع ثقافات مختلفة هو ما يحرّك رغبتي في الترحال، لا سيما حين يتعلق الأمر برياضة المشي والهايكنغ، حيث خصصت العديد من الدول مسارات ممتدة بين السهول والجبال لتكون مسرحًا لهواة هذه الرياضة. هناك، يتحول السفر إلى تجربة مزدوجة: متعة ورياضة، اكتشاف ولقاء، شغف وهواية تتسع لتشمل صداقات جديدة ومعارف تضيف إلى حياتي أبعادًا أخرى.
ومن بين كل مغامراتي، تبقى قمة جبل كيليمنجارو في تنزانيا علامة فارقة. فهي أعلى قمة في إفريقيا ورابع أعلى قمة في العالم، وكانت نقطة الانطلاق الأولى لانخراطي الجاد في الهايكنغ. لم يكن صعودها مجرد إنجاز رياضي، بل مدرسة حياة، تعرّفت فيها إلى تفاصيل مدهشة: من الصرامة في حماية البيئة ومنع إلقاء المخلفات، مرورًا بالألفة التي تجمع الإنسان بالطيور، وانتهاء بالانضباط الذي ينساب في تفاصيل الحياة هناك.
لم تتوقف رحلاتي عند تنزانيا؛ فقد أخذتني الأقدام إلى مواقع تراثية في إسبانيا وغيرها من الدول، حيث يتجلى حرص الناس على زيارة تلك الأماكن وحفظ ذاكرتها الحية. ومع ذلك، فإن أكثر ما يظل عالقًا في ذاكرتي هي القمم الشاهقة التي اعتليتها حول العالم. فمشهد الطبيعة من الأعلى يظل تجربة لا تُضاهى؛ إنه إحساس بالتحرر، مشوب أحيانًا بنقص الأكسجين، ومصحوب دومًا بتساؤل داخلي عن صعوبة النزول بعد كل هذا الارتفاع. إنها لحظات تختصر مزيجًا من الجمال والخطر والرهبة، وتترك أثرًا لا يُمحى.
ولعل ما يمنح السفر هذا السحر أنه يفتح للإنسان نافذة سريعة لفهم ثقافات الشعوب والاقتراب منهم بصدق. وقد لخص الإمام الشافعي هذا المعنى منذ قرون حين قال:
تَغَرَّبْ عن الأوطان في طلب العُلا وسافرْ فإن في الأسفار خمسُ فوائدِ
تفريــــجُ همٍّ واكتســابُ معيشــةٍ وعِلـــــمٌ وآدابٌ وصُــحـبـةُ مــاجــدِ
فالسفر يظل مدرسة كبرى، يعلّم بقدر ما يُبهر، ويمنح بقدر ما يأخذ.

رحلات لا تُمحى
عمر عبدالعزيز العمير
كانت بدايتي مع السفر المختلف وليدة شعور بالملل من رتابة الحياة اليومية. قرّرت أن أخوض تجربة جديدة، فانطلقت في رحلتي الأولى على الدرّاجة الهوائية. لم أكُن أتوقع أن تكون تلك الخطوة الشرارة التي ستفتح أمامي عالمًا آخر من المغامرات، لكنها تحولت سريعًا إلى أسلوب حياة، وتجارب معيشية كاملة أعيش تفاصيلها بكل حواسي؛ أشعر بالأرض تحت قدميّ، وأتقلب مع تقلبات الطقس، وأختبر حدود جواز سفري وأنا أعبر من بلد إلى آخر.
ومن بين المغامرات الكثيرة التي خضتها، تبقى بعض المواقف عالقة في ذاكرتي لغرابتها. في إحدى رحلاتي على الدرّاجة النارية، وجدت نفسي عالقًا بين موريتانيا والسنغال، حين ضربت المنطقة عاصفة حولت الأرض الطينية إلى مستنقعات. لم أدرك، حينذاك، أنني في محمية طبيعية تعج بالزواحف من أفاعٍ وتماسيح، ولم يكُن أمامي سوى ترك دراجتي والسير خمسة عشر كيلومترًا حتى أصل إلى نقطة الحرّاس. مكثت عندهم ثلاثة أيام ملأى بالتحديات؛ تعرضت خلالها للدغة عقرب، وتعطل "الكلتش" في درّاجتي، واضطررت في النهاية إلى نقلها بسيارة مقابل مبلغ كبير، قبل أن أُجبر على عبور الحدود إلى السنغال بلا تأشيرة. كانت تجربة مزيجًا من الخوف والمغامرة، لكنها واحدة من الذكريات التي لا تُمحى.
ومن الأماكن التي تركت أثرًا عميقًا في نفسي، كانت رحلتي عبر الصحاري الأسترالية وصولًا إلى صخرة أولورو الحمراء. هناك، حيث يمتزج التاريخ العريق للسكان الأصليين بجمال الطبيعة البكر، قضيت يومين لا يُنسيان. غروب الشمس فوق الصخرة منحني شعورًا نادرًا بالسكينة والانسجام، بعيدًا عن صخب المدن وضجيجها. كانت لحظة صافية جعلتني أشعر أني جزء من المكان.
لكن أعظم ما علّمني إيّاه السفر هو أن البشر، في كل مكان، يملكون نزعة عفوية للمساعدة؛ كانوا يقدمون لي الماء والطعام، وأحيانًا المال، فقط لأنهم رأوا فيّ رحّالًا متعبًا يحتاج إلى يد عون. تلك اللحظات أكدت لي أن العالم مكان آمن في جوهره، وأن الطيبة لغة مشتركة لا تحتاج إلى ترجمة، وأن الثقافات المختلفة ليست عائقًا يفصل بين الناس، بل هي جسور تربطهم وتفتح أمامهم آفاقًا واسعة لفهم بعضهم بعضًا بعمق.

زوايا مخفيّة للعالم
فايز العلي
في السنوات الأخيرة، أصبح السفر عندي أكثر من مجرد انتقال من مكان إلى آخر؛ لقد صار تجربة حياة حقيقية أبحث من خلالها عن الجديد وغير المألوف، وعن تجارب تمنحني شعورًا بالاندماج مع العالم من حولي. ما جذبني إلى هذا النوع من السفر بعيدًا عن السياحة التقليدية هو رغبتي في كسر الروتين الذي يفرضه السفر إلى الوجهات المزدحمة، حيث تقتصر التجربة غالبًا على مشاهدة المعالم واستهلاك الخدمات، دون أخذ الفرصة لفهم الناس، أو التعرّف إلى عاداتهم اليومية، أو استكشاف تفاصيل المكان التي تمنحه شخصيته وروحه. شعرت بحاجة إلى اكتشاف الزوايا المخفية للعالم، حيث الأصالة والعفوية، وحيث يمكن أن تكون التجربة شخصية ومباشرة، وليس مجرد مشاهدات سريعة.
من بين أغرب مغامراتي، تجربة العيش مع عائلة محلية في قرية جبلية نائية في جبال الأنديز، بعيدًا عن الفنادق والمطاعم. هناك، تعلّمت أن أبسط تفاصيل الحياة اليومية، مثل إعداد الطعام أو إشعال النار للتدفئة، تحمل معاني عميقة وتشكّل روابط إنسانية حقيقية لا تُنسى. كما تركت تجربة التجديف في نهر شبه مجهول للسيّاح أثرًا كبيرًا في نفسي؛ فقد رأيت الطبيعة في حالتها البِكر، بكل صفائها وهدوئها، بعيدًا عن صخب المدن، ووجدت نفسي مندمجًا تمامًا في جمالها وقسوتها في الوقت نفسه.
ومن الدروس الغنية التي اكتسبتُها خلال رحلاتي، فهم معنى الضيافة والكرم في ثقافات مختلفة. ففي بعض المجتمعات، يُعدُّ استقبال الضيف واجبًا مقدسًا حتى لو كان المضيف لا يملك الكثير، وهو ما علّمني أن الكرم لا يُقاس بالماديات، بل بالنية والرغبة الصادقة في مشاركة الآخر ما لديك. ومن بين الأماكن التي تركت أثرًا عميقًا في قلبي، بلدة صغيرة في قرغيزستان، يمتزج فيها التاريخ بالطبيعة، ويشعُّ الناس بساطةً ودفئًا، حتى شعرت أني أعود بالزمن إلى الوراء بعيدًا عن صخب الحياة الحديثة وضغوطها.
السفر هو أكثر من مجرد رحلة؛ إنه وسيلة للتعرّف إلى الثقافات المختلفة وفهم الناس بعمق. إنه يجعلنا ندرك أن اختلاف العادات ليس حاجزًا، بل هو جسر للتقارب والاحترام المتبادل، وأن العالم مليء بقصص وتجارب لا يمكن تعلمها إلا بالخوض في الحياة نفسها، خطوة بخطوة، بعيدًا عن المسارات المعلّمة والدروب المألوفة.

دهشة الطريق الطويل
ذيب العتيبي
لم يكُن دخولي إلى هذا النوع من السفر وليد الصدفة، بل جاء بدافع الرغبة في التغيير وكسر النمط المألوف. فقد اعتدت في بداياتي السفر التقليدي، لكنني مع مرور الوقت شعرت أنني بحاجة إلى أسلوب مختلف يمنحني مزيدًا من التفاعل مع الناس، ويُضفي طابعًا خاصًّا على رحلاتي. لذلك، اخترت أن أخوض تجارب ذات طابع مغامراتي يجذب الآخرين أيضًا، خاصة أنني أوثّق هذه الرحلات وأشارك تفاصيلها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لتصبح حكاياتي وسيلةً لإلهام من يبحث عن شيء جديد في عالم السفر.
ومن بين أغرب المغامرات التي خضتها وأجملها، رحلتي بالسيارة "الشاص" من جدة إلى النرويج. كانت تجربة فريدة بكل المقاييس؛ إذ قطعت آلاف الكيلومترات، وعبرت أكثر من 21 دولة عربية وأوروبية. لم يكُن مجرد تنقل جغرافي، بل سلسلة من المشاهد والتجارب المتنوعة. كل حدودٍ مررت بها كانت تحمل نكهة جديدة، ولغة جديدة، وثقافة مختلفة، وهو ما جعل الرحلة مدرسة حياة حقيقية.
أما عن أغرب ما واجهته في أسفاري، فكانت الطقوس والعادات التي صادفتها في بعض مناطق إفريقيا وأمريكا الجنوبية. رأيت شعوبًا ما زالت متمسكة بتقاليد صعبة وغريبة علينا، مثل شق الشفاه أو خدش الوجوه بالنار، أو استخدام البخور في طقوس تبدو لنا موحشة لكنها عندهم عادية ومقدّسة. مثل هذه التفاصيل العميقة علمتني أن التنوع البشري واسع للغاية، وأن ما قد يبدو غريبًا أو قاسيًا في نظرنا، هو جزء أصيل من هوية الآخرين وحياتهم اليومية.
ومن الأماكن التي لا يمكن أن أنساها، حضارة الإنكا في البيرو، حيث تقف بقاياها شاهدة على تاريخ عريق لا يزال ينبض بالحياة، وكذلك أهرامات المايا في المكسيك، التي تجعل الزائر يعيش دهشة الحضارة القديمة بكل عظمتها وغموضها.
أرى أن السفر يظل أعظم وسيلة لفهم ثقافات الشعوب. فهو يفتح أمامك أبوابًا للتعرّف إلى عاداتهم، وأطعمتهم، وموسيقاهم، وأساليب حياتهم اليومية، ويجعلك ترى العالم بعين أكثر رحابة. كل رحلة تمنحني دهشة جديدة، وتكشف لي عن أشياء لم أشاهدها من قبل، وتذكرني دائمًا أن التنوع البشري ثروة لا تُقدّر بثمن، وأن التعرّف إلى هذا التنوع لا يتحقق إلا إذا قرّرنا أن نعيش التجربة بأنفسنا.