Hero image

رواية المكان المتنوع

فهد العتيق

نوفمبر 4, 2025

شارك

قرأت ما كتبه الصديق الكاتب بدر السماري، في مقاله المعنون بـ"الرواية والمدينة.. استكشاف فضاء السَّرد السعودي"، في العدد 712 من مجلة القافلة. أتفق معه في أن الرواية ليست ابنة المدينة فحسب، وربَّما ليست ابنة القرية أيضًا. ونستطيع أن نقول إن الرواية الحديثة المعاصرة هي ابنة الحياة وتفاصيلها اليومية ومشاعرها العميقة، بقدر ما هي رواية المكان، في الحارة والمدينة والقرية والصحراء والبراري الواسعة والطرقات القديمة، وهذا ما يعطيها تنوعًا واتساعًا في الرؤية.
والكتابة عن القرية والصحراء سوف تستمر؛ لأنهما الذاكرة القديمة للمدينة ومستودع الحكايات والذاكرات والأساطير. وتأتي روح المكان من الذين مكثوا فيه، ومن الذين مرّوا منه ومنحوه من أرواحهم وحكاياتهم وهمومهم وأسئلتهم، وهذا ما يجعل الذاكرة الفردية والجماعية باقية، ولا تُمحى بسهولة.

وهنا، أجد فرصة لتقديم بعض مشاهد الرواية في القرية والصحراء لقرَّاء "القافلة" العريقة، من تجربتي الذاتية، وذلك في حكاية كتبتها عن مكان بين مدينة وقرية: "أتذكر ليلة زرتُ فيها ذلك المكان البري القديم شمال غرب الرياض، انطلقت بعد المغرب وأنا أتأمل هذه اللحظة السحرية بين النهار والليل. وحين وصلت المكان لاحظت آثار أقدام ونار لم تنطفئ ورائحة قهوة عالقة في هواء الليل. جلست وفي ذهني رغبة في محاولة الكتابة عن ليل مستعمل، فكانت قصة (ليل ضال) التي استدرجتني فيما بعد إلى مشاهد رواية (قاطع طريق مفقود)".

وأتذكر في هذا السياق فصلًا من روايتي "كائن مؤجل"، كان مسرحه مكانًا بين القرية والمدينة، في صحراء نجد، حين هرب بعض أهل القرية منها، وقطعوا مسافة تقارب 150 كيلومترًا مشيًا على الأقدام نحو الرياض طلبًا للرزق، حتى دهمهم الجوع في لحظة أسطورية صعبة: "وحين حلّ بهم التعب العظيم، ارتاحوا، بعد أن ارتسمت على وجوههم علامات التعب والبؤس والقلق. فقد نفد التمر ونفد الماء ولا يوجد قرى مجاورة، يمكن أن تروي عطشهم القديم، حتى الكلام فقد قدرته على التعبير، وصارت نظراتهم لبعض، أو لهذا الليل البهيم في الصحراء".

تظل الصحراء مُوحية بكثير من المشاعر المختلفة التي يمكن للروائي الاستفادة منها بحسب الحبكة. وفي ذلك الموقف، كانت مشاعر الخوف والغموض رصدت صمتهم الذي تُعوِّضه النظرات، وهي لغة أخرى قاسية وخائفة. نظرات مليئة بالخوف، وكأن الخوف يكاد يتحول إلى شيء أو رائحة تدور حول أرواحهم التي فقدت معنوياتها، وحول أجسادهم المنهكة في لحظة غامضة. كانوا أربعة رجال، أبناء عمومة، يقف ثلاثة منهم، بينما يستلقي الرابع غير بعيد عنهم. نظر نحوهم نظرة غريبة، وكان قد شمَّ رائحة ما مخيفة، فنهض واقفًا، وركض بكل ما تبقى له من قوة، ركض مسافات طويلة حتى غاب عن أصحابه الثلاثة في ظلام صحراء نجد العريقة. لقد شعر هذا الرجل بأن أصحابه الثلاثة يفكرون في أكله!

الصحراء حاضرة حضورًا أسطوريًّا مبدعًا ومتنوعًا في رواياتنا. لكن، مع الأسف، اللافت والمؤلم أن الكثير من القرى العربية فقدت قرويّتها سعيًا لمسايرة موضة التحديث. نلاحظ أن طبيعة المكان الريفية تمدنت كثيرًا وبنحوٍ مبالغ فيه. هذه القرى فقدت شكلها القديم وروحها القديمة، لكنها ما زالت محتفظة بطابع الهدوء في النهار والليل الساحر والبراري الممتعة المحيطة بها.

ولدينا الآن، في هذه المرحلة الروائية المزدهرة، جيل جديد مبدع، اقترب من أسرار فن الكتابة، وقدَّم لنا روايات متنوعة المكان. إضافة إلى الروايات الخمس التي ذكرها بدر السماري في مقاله، هناك على سبيل المثال روايات الكاتبة أمل الفاران في القرية والمدينة والصحراء بلغتها الهادئة والممتعة، ولها روايات مهمة مثل: "حجرة"، و"كائنات من طرب"، و"غواصو الأحقاف". وتميزت كتابتها ببساطة فيها عمق وهدوء وجمال. وكذلك تجربة الكاتب عواض العصيمي مع الصحراء في روايات عديدة مبدعة. لهذا، يمكن القول إن القرية والصحراء حاضرة حضورًا أسطوريًّا مبدعًا في رواياتنا المتنوعة. وقد قرأنا في السنوات الأخيرة روايات سعودية جديدة متنوعة في مكانها وموضوعاتها، وحقَّقت نقلة نوعية فنية في مستوياتها الفنية تجاوزت في بعض نماذجها القليلة النمط التقليدي الآلي المتكرر الذي يبالغ في الاعتماد على الوصف والإنشاء الطويل والحبكات الصارمة والهدف المباشر.

 وإضافة إلى روايات القرية السعودية التي يكتبها جيل جديد، أشير إلى رواية "الوسمية" للكاتب السعودي الراحل عبدالعزيز مشري، رحمه الله. هذه الرواية لا يمكن أن تسقط من ذاكرة الأدب السعودي والعربي، ربَّما لأنها كُتبِت بلغة موحية وسلسة وعذبة دون تكلُّف أو مبالغة. تدور أحداثها في قرية بجنوب السعودية، وتستعرض في معظم مشاهدها تفاصيل الحياة فيها، وهو ما يجعلها واحدة من أجمل روايات القرية التي قرأت.